سفرُ محفوفٌ بالمخاطر بحثاً عن وطن ..!/ فخري كريم

بدء بواسطة برطلي دوت نت, سبتمبر 08, 2015, 08:09:18 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

سفرُ محفوفٌ بالمخاطر بحثاً عن وطن ..!



فخري كريم

يوم وجدنا زمن الهجرة القسرية في بلدان مجاورة يمتد، تجرّعنا السم "الوطني" الزعاف وقلنا لمن يريد البحث عن ملاذٍ آمن في دول اوربا: رافقتكم السلامة، لا تجعلوا من الملاذ الجديد وطناً بديلاً، وتذكروا أن الوطن ينتظر عودتكم ..!
كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، يوم أصبح ايواء آلاف العوائل والمناضلين عبئاً يفوق الامكانيات الشحيحة التي كانت في طريقها لأن تجف مصادرها .
لم يكن القرار سهلاً، فهو يمس صميم القيم الوطنية التي تشرّبنا بها، منذ تعلمنا ابجديات العمل الوطني، والكفاح لاعادة الاعتبار للمواطنة كحاضنة لتغييرٍ من شأنه بناء جنة أرضية تحترم سويتنا كبشرٍ، وتجعل من الوطن قيمة تسمو على القيم كلها، ترتقي بزهونا فيها ونفخر بانتمائنا لها.
في تلك الايام وما قبلها، كنا نتغنى بالوطن، ونفتدي رايته ونشيده بكل غالٍ ونفيس، لا نفكر بخلاصنا الشخصي، أو نقبل الخيار بين الحياة الرغيدة والموت في سبيل الوطن. وحين كان الواحد منا يخطو خطوته الاولى ليصبح منتمياً، يحمل تعويذة لا تفارقه: الاستشهاد دفاعاً عن الوطن وفداءً للشعب.! وكان ذلك " تعهداً" شخصياً، ذاتياً يردده المنتمي مع نفسه دون ان يهمس بكلماته خشيةً من متلصصٌ أو صديق، يرى في الهمس إدعاءً بالبطولة، وتيهاً مبكراً مع مجدها. وكان الهمس يردد تلك المقولات التي ارتقت فيها قامات الوطن أعواد المشانق، وهي تهتف للوطن المستلب، وتعيد استذكار عذابات من تجرعوا التعذيب الوحشي، ورفضوا القبول بخيار حياة الذل مجرداً من قيم الوطن والذود عنها، خلاصاً من تعذيب لا طائل لاحتماله دون أن يكون الانسان قد سما فوق ذاته وكل ما يتعرض له من مسخ انسانيته ..!
قلنا يومها، لا بأس فالوطن سيتعافى، والاستبداد سيسقط تحت ثقل ما يرتكبه من استباحات يندى لها الجبين، والوعي سيصبح واحة تتفجر فيها المعجزات، والعراقي سيغدو مثلاً يحتذى به. حينها سيعود هؤلاء، وهم يتركون وراءهم ملاذاتهم التي ليس فيها طعم الوطن، ولا تفوح منها رائحة أمجاده ووعده وسمو قيمه ومآثره .
كان اللجوء بمعايير ذلك الزمن الجميل الواعد، "عيباً" بالمعنى الاخلاقي قبل المعايير السياسية. حتى ان أفقر معدمٍ تفوح منه رائحة الجوع كان يرفض أن يكون خلاصه تخلياً عن فكرة الوطن.! وقد بكى الناس في نهاية الخمسينيات بدموعٍ غزيرة، وهم يتابعون مأثرة سجينة شيوعية يهودية انهت محكوميتها وتقرر تسفيرها الى بلد وسيط ينقلها الى اسرائيل، بعد ان انهت سنوات السجن. رفضت المغادرة، وتشبثت بسلم الطائرة، لم يستطع رجال الأمن ثنيها، وظلت على حالها الى أن اعيدت الى السجن متمتمة، وهي تواجه جلاديها: انتم غرباء عن وطنكم، لهذا ليس غريباً ان لا تفهموا تشبثي لانني ارى بوابة سجني على ارض بلادي كوة أمل ورجاءٍ على رحاب الوطن .
بقيت "عميدة" سجينة الى ان أطلق سراحها بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨.. بقيت متعلقة بوطنها، ورفضت أن تذهب الى اسرائيل او تبحث عن وطن بديل، حتى وان كان وطنها العراق سجناً كبيراً لا يحمل سوى الوعد بالمزيد من العذابات والمكابدات والمهانة ..
أكنّا مهووسين بافتراضٍ مكانيٍ لا معنىً قيمياً له.؟ أكان الوطن محض حدودٍ، وارض ممتدة تُحسب بآلاف الكيلومترات وهوية احوالٍ وجواز سفر..؟
وما الذي جرى حتى صار ذاك الذي كان يوماً زهواً وافتخاراً ومدعاةٍ للافتداء والتضحية" طارداً للأمل" مسكوناً باشباح الفاقة والموت المجاني، مثيراً للريبة والشك في امكانية ان يكون العراق، بل كل دول "الوطنية الزائفة" و"القومانية المتعجرفة" مجرد ملاذٍ آمن دون اي امتياز؟.. كيف انقلب الوضع لنستبدل النشيد الوطني في ساحات الاحتجاج وفي بيوتنا بالتغني بانسانية ميركل التي تستحق ان تكون كذلك بجدارة انسانٍ سوي، تذرف دموعها أمام الملأ وتحني قامتها لطفل مات غدراً على شواطئ غريبة، وحكام دولنا الاسلامية، يتعالون على مهانتنا ويتراكضون لحجٍ ثانٍ او رابعٍ او سنوي، في حين يتخلى مدير شركة وثلة من موظفيها عن اجازتهم السنوية ويتبرعون بمصاريفها للاجئين، بل ويقضون الاجازة بالتفرغ لجمع التبرعات لهم .؟!
اهذا وطن نتغنى به ونفتديه، وحكامه يتفننون بنهبه وتدمير نسيجه الاجتماعي، ويديرون ظهورهم لمآسيه، ويتعاركون صراخاً وعويلاً على ما سيفقدونه من امتيازات وحظوة ومصادر للنهب والسرقة؟!! ..
قلت لأمجد الذي يستعد للحاق بحبيبته التي عبرت البحر: ارجوك لا تفعل، انه سفرٌ محفوفٌ بالمخاطر والموت والاغتراب ..
قال: أهو موت يختلف عن موتنا اليومي المجاني الذي لا يحمل وعداً بغدٍ آمن؟..
ثم استدرك قائلاً: إمنحني أملاً لأبقى ..
لم يكن لي ان اتبادل معه خديعة تصلح لسياسيي الصدفة، ولم أعد قادراً على تحمل وزرٍ مضافٍ على آلاف ضاعت آمانيهم من فرط وعودنا التي استلبت كينونتنا نفسها ..
قلت له: انها بقية من أمل لن افرط بها، وهي بالكاد تكفيني شر هواجس اليأس ..!
قال لي بحكمة شابٍ لم تخدعه الشعارات: انا ذاهب للبحث عن وطن، ليس حدوداً ولا مساحة ولا هوية أُقتل عليها، ولا جواز سفرٍ لا استطيع التجول به! . .. أرحل عن وطنٍ يعيد لي اعتباري كانسان، لا يقوى فيه قاتل "وطني" على امتهان حريتي وكرامتي ..
لم أجد كلماتٍ تعبّر عني سوى ان اقول له: رافقتك السلامة، تذكر ان وطنك ينتظرك ليتعافى، وانا اعيش على هذا الأمل المحتقن..!