زيارة الى العالم الاخر / شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, سبتمبر 08, 2015, 08:07:54 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

زيارة الى العالم الاخر


برطلي . نت / خاص لبريد الموقع
   
شمعون كوسا

اذا كان عليّ تحديد هويتي أقول : أنا إنسان قبل كل شيء ،  واعتبرُ كافة البشر اخوتي ، بغضّ النظر عن لونهم ولغتهم او دينهم أو طائفتهم او قوميتهم .  في نهاية المطاف ، لنا خالق واحد ، جَبَلَنا بنفس الطريقة دون زيادة او نقصان . انا أومن بكل ما هو روحي وايجابي في كل الاديان ، لا سيّما ما يدعو فيها الى الغفران والعفو والتسامح والمحبة ، لان الاديان برأيي ، حاجة بشرية ، أتت لمساعدة البشر على التعايش فيما بينهم بتآلف وسلام .
معتمداً على هذه الاساسيات ، وعلى ما تعلمته في دراستي  والتربية التي تلقيتها ، قمت بارتداء معطف المنطق وحرية التفكير اللذين  لا يفارقاني أبداً ، وفتحتُ نوافذ خيالي  كي انطلق دون قيود ،  في جولة الى العالم الاخر .
ابتدأتِ الجولة على النحو التالي :
انطلقتُ في الفضاء مبكرا في صباح أحد هذه الايام الاخيرة ، كنت اعرف هدفي غير اني اجهل السبيل لبلوغه . بدأت  احلّق في الجوّ متّجها  ذات اليمين وذات الشمال ، إلى ان ابصرت نسرا يدنو مني بحركة بطيئة  . عندما اصبح باستقامتي ، طلبت منه باللغة العربية اذا كان بوسعه إرشادي في مهمتي الخاصة هذه ، ضحك النسر من مشروعي هذا ، لا اعرف كيف، وقال : ان دربك طويل جدا ، وعليك الجنوح قليلا الى اليمين  ومن ثمّ الانطلاق بخط مستقيم . 
بعد يومين من التحليق المستمر بين مطبّات كانت تتجاذبني فتغيّر مساري ، ابصرت من بعيد شعاع بوابة كبيرة . اتجهت نحو الشعاع دون تردد، وبعد أن استجمعت قواي، طرقت الباب مرتين. لم انتظر كثيرا عندما رأيت نفسي امام  شخص مهيب ، يرتدي ثوبا ناصع البياض ، قال لي  باسلوب امتزج فيه الاستغراب بالتأنيب : ما الذي اتى بك الى هنا ؟ الا تعرف بانك امام باب الملكوت؟ الا تعرف بان المكان مخصص لأرواح الموتى ؟ وانت قادم هنا بجسدك الحيّ وكامل ملابسك وحتى عويناتك ،  ماذا تريد ؟
قلت له : يا سيدي انا على بيّنة من كل ما صرحتَ به . غير اني ومنذ سنوات اضحيت فريسة رغبة جامحة لزيارة عالمكم ، فكرة  استحوذت على افكاري ولم تستكنْ يوماً  . وها انا اليوم  ، بعد أن تمنطقت بشجاعة  لم اشعر بها قبل ذلك ، قررت القيام  بهذه المغامرة . كل ما اريده هو قضاء بعض الوقت  هنا بين ظهرانيكم .
قال لي وهل تعرف أحداً هنا ؟ اذا كان جوابكم نعم ، عليك  ذكر اسم شخص واحد فقط .  قلت في نفسي وكيف لي ان اضمن بان من سأذكره له قد حصل على الاقامة هنا ؟!!  ولكني بعد برهة تفكير قلت: لا بدّ ان شخصا مثل مام شابونا ، الرجل الطيب الذي كان يحظى بمحبة جميع الناس دون استثناء ، لابدّ انه هنا ، وإلا ما فائدة الملكوت ان لم يخصّص  لأنقياء القلوب مثله ؟
قال لي :  وما هي اوصاف مام شابونا ؟ قلت له كان رجلا طيبا جدا ، يحب الجميع ويبتسم للصغير والكبير  . كان معروفا عندنا بولعه في معاقرة بنت الحان . كان يحتسي الخمرة باعتدال مع الشباب والمسنين ويردد دوما :  هدفنا هو قضاء وقت جميل بصحبة بعضنا البعض في جوّ من السعادة والحب والاحترام المتبادل ، بعيداً عن النميمة والافتراء .
ابتسم حامل المفاتيح وقال : انت محظوظ لأنك ذكرت شخصا محبوبا حتى في   الملكوت.   ولكن يجب عليك  ان تعلم بانك هنا في أرض الخلود ، والسعادة هنا ليست في المأكل والمشرب . لك ساعة واحدة فقط ، وبعدها عليك العودة  من حيث اتيت . 
فوّض المسؤولُ أمري الى احد الملائكة الذي طار بي الى حيث مام شابونا . دخلت دار الخلود  في ربوع مترامية الاطراف ، مروج واسعة فيها ما يحلو للعين ويملأ النفس سعادة . استغربَ مام شابونا لمثولي المباغت امامه ولكنه قبل ان يفتح فمه ، ضمني الى صدره الروحي بقوة . كان يرتدي ثوبا طويلا ابيض ، كان قد احتفظ بملامحه التي كانت قد اكتسبت جمالا خاصا.    قلت له مازحاً : مام شابا ، هل يسمحون  لك هنا باحتساء كأس خفيف من حين لآخر ؟ ابتسم بوجهي وقال : يا ابني ان  الخمرة تعطيك وقتا قصيرا من السعادة ، غير اننا هنا نتمتع بسعادة كاملة لا توصف، ولا يمكنك تصورها إلا اذا بلغتها.
قلت له : كلّمني قليلا عن الملكوت لانك احد المواطنين هنا . قال لي : إن بعض ما كنتَ قد تعلمتَه انتَ بهذا الخصوص في الارض ، هو صحيح ، ان الرجل الصالح الذي يدخل هنا يكون قد بلغ الكمال ، وبلوغ الكمال الذي هو الله ، يعني الفوز بالسعادة والطمأنينة الكاملة التي تغمر الروح بصورة دائمة  . يجب ألاّ تنسى باننا  هنا أرواح ، بالرغم من رؤيتك لنا  بوجوه أرضية .
قادني مام شابونا الى ذويّ ، الوالدين ، واخي الذي أختطفه المنون خطأ ، ونقلني تباعاً الى قرابات الدرجة الثانية والثالثة  ، بعدها اصطحبني الى  كافة اهل قريتي ، ومعارفي من المدن الاخرى . 
قلت له ، لماذا لم تقع عيني ، بين هذه الالوف ، على عدد كافٍ  من رجال الدين  ؟ ابتسم وقال ، انا ايضا لا ارى منهم إلا القليل  ، لعلهم سيأتون بعد فترة ، ولكني سمعت ،  والعتب على الراوي ، بان هؤلاء يخضعون لأحكام اخرى اكثر قساوة ، لا سيما الذين لم يحافظوا على العهد ، هؤلاء يبتهلون الى الله بشفاههم ، أمّا قلوبهم وافكارهم فهي بعيدة جدا ، وحسابهم صارم ايضا لانهم تعهدوا ان يكونوا خُدّاما لرعاياهم ، وها هم قد نصبوا أنفسهم أسيادَ لا يتنازلون عن أيّ امتياز دنيوي . استغربت من هذا الكلام الصادق الذي اؤيده بالكامل ، وشكرت الله على أنه لم يصدر مني أنا شخصياً !!!   
قلت له ، اريد ان تقودني الى جدّتي التي كانت تشكّك بوجود عالم آخر  ، فقادني اليها بسرعة البرق . كان اللقاء حارا دون دموع ، لان الارواح السماوية لا تبكي ، قلت لها : يا جدتي التقيّة ، عندما كنتُ أسألكِ في حينها عن الحياة الاخرى ، كنت تقولين  : لحدّ الان لم يقم احد من العالم الاخر بزيارتنا لكي يُطلعنا على ما يجري بالضبط هناك . ماذا تقولين الان ؟ ابتسمت ولم تجبني .   . قلتُ لها : إن الاغلبية الساحقة من الناس ، يرون هذا الامر كخيال بعيد . إنهم يطلبون الرحمة للموتى دون قناعة كبيرة ، لانهم يعتبرون الموت بعيدا عنهم ، وعند حلوله ضيفا على الاخرين ، يتمتمون كلمات رتيبة لا يفقهون معانيها .
وأضفتُ هنا : أيمكن لاحدكم مرافقتي الى الارض ؟ ابتسم مام شابونا  وقال : كان يجب ان يكتفي الناس بما علمتهم الكتب ، أين ايمانهم ؟ ان الايمان يوفّر لهم استحقاق حياة الخلود . قلتُ له : ان الايمان شبه معدوم ، لماذا لا تقومون بهذه الخدمة للبشرية ؟ رَبَتَ  مام شابونا  على ظهري وقال : لقد رأيت بأمّ عينيك كل شئ ، فقم انت بهذه المهمة . اجبتُه : انتَ تعرف بانهم لا يصدقوني . ابتسم مام شابونا من جديد وودّعني بحرارة !!
نظرتُ الى ساعتي واذا بالملاك ينتظر خروجي . سألته عن امكانية مرافقتي في جولة سريعة أخيرة كي أرى فيها المشاهير والشخصيات التاريخية   التي قرأتُ عنها في الكتب والقصص . أثناء الجولة الخاطفة تعرفت على بعض الوجوه ، وانتهت جولتنا عند الباب. قبل النزول سألتُ القيّم على باب الملكوت اذا كان بوسعه  الوشوشة في اذني عن يوم قدومي الى حيث مام شابونا  : ابتسم بدوره وقال : لا تستبق الامور ، عش حياتك بهدوء وسلام وسعادة ، هذا اليوم مصير الجميع ، الا تقولون انتم كل شئ بوقته حلو ؟  قبل نزولي طلب مني ألاّ أبوح  بزيارتي الخاصة هذه لاحد .
لم تستغرق عودتي غير ساعتين لاني كنت قد اهتديت الى طريق سريع . كانت زيارةً قصيرة جدا لم تتح لي المجال لإشباع فضولي . قد يخطر ببالي القيام بزيارة آخرى ، حينذاك ستكون  مهمتي يسيرة كوني  أنهيتُ زيارتي الحالية في الموعد المطلوب ، ولم اتقدم بأيّ طلب للّجوء !!!