تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

ما اروع العفو اذا جاء مقتدرا

بدء بواسطة simon kossa, فبراير 02, 2011, 09:26:46 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 2 الضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

ما أروع العفو إذا جاء مقتدراً




شمعون كوسا



يُحكى عن قائد سفينة ، مَخرَ بسفينته عُباب معظم البحار والمحيطات ،انه إشتهر بقساوته الشديدة مع طاقمه من البحّارة والعمال والمساعدين الآخرين . كان فضّا في كلامه العادي وفي طريقة إصداره للاوامر . لم يبشّ يوماً بوجه أحدٍ من اعضاء طاقمه ولم يُجهد نفسه حتى بتعلـّم اسمائهم لمناداتهم بها. وباعتقادي هذان السطران كافيان لاستنتاج كثير من صفاته الاخرى. ولانّي عازم على تعريته دون مراعاة ، اقول : انه كان شخصا متعالياً يتعامل مع بحارته الصغار كالحشرات وباختصار شديد كان شخصا ممقوتا يتجنبه الصغير والكبير ، لان أيّ تقرب منه في العمل او خارجه ، كان فرصة لتلقّي إهانة او توبيخ او محاسبة تذهب الى حدّ الضرب مع بعض الصغار . كان البعض يتحمله منذ اكثر من خمس سنوات ، ولولا لقمة العيش لكان معظمهم قد تركوه منذ البداية .

مرّت ايام وقدمت شهور وولـّت سنون ، وإذا بالربّان الخفيف الظلّ هذا يصاب بوكعة صحية بسيطة طرحته الفراش ، وكان الامل ان ينهض من كبوته بعد اربعة ايام ، ولكنه تبيّن وكأنّ السرير قد اعتاد على ضيفه ، فتشبّث به ولم يدعه يستقيم . ساءت حالته بسرعة واشتدت يوما بعد يوم ، ورأى الطبيب ، بعد اسبوعين فقط  ، بانه لا مناص من الاعلان بان قائد السفينة مصاب بمرض عضال . عند اعلانه الخبر ، خيّم الوجوم على وجه البحّارة . لم يكن صمتهم العميق حصيلة قلق او حزن ولكنه كان تعبيرا عن حالة انذهال اعترتهم لمفاجأتهم بنبأٍ لم يصدقوه ، لإنهم لم يكونوا يتوقعوه ولا يحلمون به أصلا . وبعضهم من شدة فرحهم ،  حاولوا التمثيل ولعب دور المتأثر امام الطبيب فقالوا بشئ من الحزن : يا للاسف ، أليس هناك امل في شفائه ؟!! والطبيت لكي لا يخدش مشاعرهم ويثير حزنهم ، إكتفي بهزة رأس افقية !!

تقدّمَ المرض بقفزات سريعة احرقت بعضا من مراحله إلى ان أوصل ضحيته الى الاسبوعين الاخيرين من العمر، حيث تبلغ المعاناة أوَجَها من خلال آلام لا يتصورها إلا عقل المريض . كان يمرّ البحّارة امام غرفته ويسمعون صراخه ولكنهم كانوا يتابعون سيرهم دون أيّ مبالاة ، والبعض منهم كان يذهب الى القول : انه يستحق ما جرى له ، دَعُوهُ يموت . بالحقيقة هذا كان رأي معظم البحارة ، باستثناء بحّار صغير  يدعى سعيد .  مرّ سعيد يوما امام غرفة المريض ولدى سماعه أنينَه وصيحاتِه الطويلة ، تأثر كثيرا ، فطرق الباب وحيّا قائده تحية بحرية رسمية وعرض عليه خدماته ، فهبّ عليه الربّان بغضب وامسك بقدح الماء في محاولة لرميها في وجهه ، وامره بمغادرة الغرفة حالا . خرج سعيد  الذي كان قد تعرّض منه ، قبل سنة ، لاهانة كبيرة وضرْبٍ مبرح ترك في رجله اليمنى إعاقة خفيفة ، وكان قد تمّ هذا المشهد امام الجميع .
كان سعيد مُرهف الشعور ورقيق القلب ، سورة غضبِِ القائدِِ لم تـُهبِط عزيمتَه الثابتة ، فعاود الكَرّة بعد يومين . فتحَ بابَ المريض ، ودون استئذانه ، شرع بغسل وجهه ، وأمسك بادوات الحلاقة وحلق له ذقنه ، وقام بتنضيف جسمه وتغيير ثيابه ، وفي هذه الاثناء كان ينظر قائد السفينة إليه مندهشا ، ويستغرب من طيبة قلب هذا البحار وكيف توصل إلى العفو عنه  وغضّ النظرعن كلّ ما قاساهُ منه فيما سبق من السنوات .  سطر أخير من هذا السرد  يقول بان تصرف سعيد ومثابرته على هذه الخدمة المجانية ، جعل القائد يشعر بندم شديد ،  أقرّ به  لاحقاً قبل ان يموت ، بحضور كافة مساعديه .

واذا قمت بتحليل بسيط  لهذا السرد  اقول : إن سعيد لم ينسَ تصرّف رئيسه معه ولم تغب عنه الاهانات التي تعرّض لها، وكان بمقدوره ألاّ يغفر له ، بل ينتقم منه أو يتصرف على الاقل كسائر زملائه ، أعني يدعه وشأنه ، يموت منبوذا وهو يتكبّد اشد الالام ، ولكن عجينة سعيد كانت غير عجينة القائد .  فبالرغم من كل ما جرى له ، كان سعيد يرى في شخص القائد كائنا بشريا ، ويرى ايضا بان الالام لها نفس الوقع في كل انسان ، لذا ، هبّ لنجدته وعفا عنه لانه أحسّ وكأنه هو المتألّم .

لم اشأ هنا سرد قصص العفو في حالات القتل والحروب والعداوات والمواقف الكبيرة ، فمسارالتاريخ ملئ بالالاف منها ، لان هذه القصة بالرغم من بساطتها ذات مغزى كبير لان الاهانة المعنوية في كثير من الحالات ،اشدّ ايذاءً من ايّ اعتداء آخر . وقد سمعت الكثيرين يقولون بان الاستهزاء ، بصورة خاصة ، يترك آثارا عميقة في النفس .

فالعفو إذن هو التخلص من دَيْن الانتقام والحقد والضغينة . قد يكون الدافع دينيا ولكنه في كثير من الاحيان نفسيّ لانه يساهم كثيرا في إعادة الهدوء والراحة داخل الانسان . فالحقد يسمّم الحياة والعفو يحرّرها ، كما سنرى في هذا المثل :

قيل أنّ معلماً في مدرسة خاصة أراد ان يعطي طلابه درسا عن منافع الصفح عن الغير . فطلب من كل تلميذ إحضار كيس للبطاطس . وقال : اريد ان يكتب كل واحد منكم على كل حبة بطاطس تاريخ اليوم واسم الزميل الذي لا يرغب في العفو عنه . من ضمن الشروط ، كان على الطالب ان يحمل الكيس ويبقيه على ظهره أينما ذهب ولمدة شهر كامل ، لان هذا الصفّ كان قد تفرغ لانجاز هذه العملية التربوية . في البداية لم ينتبه الطلاب للموضوع ولتبعاته ، غير انهم بعد يومين فقط  بدأو يحسون بانهم متورطون ، فساوَرَهم القلق . اصبح الحملُ ثقيلا عليهم ، ناهيك عمّا اصاب حبات البطاطس من انحلال عضوي ادّى الى صدور روائح كريهة كانت تملأ الاجواء حيثما حلّوا ، في اليوم الخامس عشر كانت الروائح اصبحت لا تطاق ، والفقرة المهمة الاخرى  في الاتفاق كانت تقضي بان لا يتمّ التخلص من أية حبة دون العفو عن الشخص الذي تحمل اسمه . ادرك الطلاب معنى العملية ، وللتخلص من ثقل الحمل والرائحة الكريهة ، قاموا برمي كل حبة واصدار عفو عن الاسم الذي تحمله  ، الى أن تمّ إفراغ الاكياس كلها ، وهكذا تخلص الطلاب من أحمالهم التي ارهقت اكتافهم وايضا من الحمل الداخلى الذي كان يكبت على انفاسهم ، فشعروا فعلا بسعادة وسلام  .

فالحقد والرغبة في الانتقام يقيّدان نفس الانسان ويجعلانها في حالة توتّر دائم ، ولقد اتضح بان الكثير من الامراض يُقاس عمرها ببقاء الحقد ورغبة الانتقام داخل النفس . فالرجل الذي يعفو ، وهو قادر على الانتقام ، يشعر باعتزاز وسعادة ،  وبتصرفه هذا يسموعالياً  لانه لم يقاوم الشر بالشر ، كان بمقدوره الثأر ولكنه عفا ووضع خصمه في حالة انكماش وشعور بالندم الشديد .
ان قرار العفو عملية طويلة وصعبة لان  مراحل الوصول اليه ترغم المجروح على وضع نفسه على المحكّ ، ومحاسبة نفسه ، وتحميلها حصتها من المسؤولية .ثمّ يبدأ الانسان بالشعور بانه تعرض لاهانة ، فيتألم من ذلك ، حينئذ يخرج من طور كونه الضحية ليعبّر عن غضبه ، ومن ثمّ  يقرر لقاء غريمه للعفو عنه .
ما اصعب العيش لو اختفي فيه الغفران . حياتنا مليئة بالاخطاء ، بالاهانات ، بالشتائم ، بالجرائم والاعتداءات بشتي ألوانها . ماذا لو فكر الجميع بالانتقام من كافة ناكري الجميل على ظهر البسيطة، الا يؤدي ذلك الى انخفاض البشرية الى اقل من نصفها ؟
لا يُنكر بانّ هناك نوعاً من العفو من الصعب التوصل اليه بسرعة ، وهو الصفح عن اهانات ناجمة عن الاقرباء والاصدقاء .لان الطعنة في هذه الحالات عميقة جدا والشفاء منها يستغرق اضعاف ما تقتضيه نفس الطعنة من الغرباء او عامة الناس .
يجب ان نقول ايضا بان العفو في حالات الاقتدار هو نصر نفسي وقوة ، وليس تنازلا أو ضعفا . هناك مثل فرنسي يقول : إن من لا يستطيع الصفح عن الاخرين ، يقطع جسورا يجب عليه عبورها شخصيا ، لانه عاجلا ام آجلا ، سيحتاج يوماً الى ان يصفح عنه الاخرون .
لا نستطيع اختتام الموضوع دون أن نقول ونردد بان قلب المحبّ يبقى الكنز الحقيقي للعفو، لأن ما يحدو بالمحبّ الى العفو هو تنافره التام مع عالم الحقد والضغينة ، فضلا عن ان تسامحه وعفوه يتدفّقان من منبع الحب نفسه ، وليس كالعفو العادي الذي قد يأتي أحيانا دون حب.  وهل يمكننا ان نغادر الحديث دون ذكرالأمّ التي قلبها  اشبه بالبحر الذي يحتفظ دوما في اعماقه بعفو يحتاجه اولادها ؟

ماهر سعيد متي

تأثرت كثيرا حال قراءة مقالتك المشطرة عن العفو ... شكرا لك .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة