وكانت رحلتي الى أمريكا ..بقلم : حبيب تومي / القوش

بدء بواسطة baretly.net, أبريل 23, 2011, 06:59:24 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

baretly.net

وكانت رحلتي الى أمريكا




بقلم : حبيب تومي / القوش

habeebtomi@yahoo.no



كانت فرصة من العمر ان ازور امريكا وأن يكون الهدف حضور مؤتمر كلداني  عام  ( مؤتمر النهضة الكلدانية ) وأن يتقاطر الى هذه البلاد مندوبين من شتى ارجاء العالم لحضور هذا المؤتمر  فكانت مناسبة سعيدة ليس الى نسيانها سبيل  .

قافلة الأعوام تسير ، ومعها يتقدم موكب العمر وتمضي السنون مسرعة وكأنها في سباق مع الريح متلهفة لبلوغ النهاية ، هكذا تعاقبت الاجيال ومرت الأعوام والقرون عبر الأجيال وهكذا سوف تبقى ما دامت المعادلة الازلية باقية بأن لكل بداية نهاية وهي الحقيقة المطلقة المعترف بها في كل الأزمان في الماضي والحاضر والمستقبل .

اتاح لي عملي في البحر ، لما فيه من مغامرة وخطورة ، مشاهدة مدن وموانئ كثيرة في مختلف الدول في اوروبا وآسيا وأفريقيا ، لكن الذي لم اصل اليه اثناء عملي هو عدم بلوغ موانئ ومدن امريكا واستراليا ، وهكذا وضعت امامي ان ازور هذه الدول إن سمحت لحظات الزمن الباقية من العمر .

يداهمني شعور دائمي بأن جينات من العصر الحجري تسير في عروقي ، فالأنسان القديم كان دائم الحركة من مكان الى آخر يجمع قوته اليومي ، وكان يتطلع لاكتشاف مكان جديد في اليوم التالي لقطف ثمار جديدة وصيد جديد . وحتى في الراهن نجد الأنسان دائب الترحال ولكنه اليوم يبحث عن مكان آمن يمنحه شئ من الحقوق والحرية مبتعداً عن مناطق التسلط والظلم الأجتماعي والسياسي والديني الذي طاله من قبل بني جنسه بل من بني وطنه ومن جيرانه الأقربين .

اعتبر نفسي من هواة السفر والتنقل وفي فترة الشباب حيث كانت جبال كوردستان ميدان تنقلاتنا اليومية ، وقد مرت وكأنها ثانية من الزمن ، وفي وقتها لم يكن في قاموس حياتنا مفردة اسمها التعب ، فننتقل بين الوهاب والشعاب والقمم وكأننا في نزهة قصيرة . ثم كانت الحياة الدراسية الجامعية خارج العراق وبعدها كان العمل في البحر لما فيه من مغامرات ومخاطر ، اجل إنني  من هواة السفر ومشاهدة اناس وأماكن ومدن جديدة لا بل إني من هواة تجديد الحياة ، وتبهرني المخترعات الحديثة لا سيما في مجال الأتصالات رغم إني اقف عاجزاً عن مواكبة هذا السيل الجارف من المخترعات اليومية .

كان الأنسان القديم يعتمد على قوته الجمسانية العضلية في التنقل وربما على الحيوانات التي دجنها في مسيرته الحضارية ، لكن بني البشر اليوم يعولون على فكرهم بدل قوتهم الجسمانية . في معرض سفرتي من اوسلو الى سان دييغو في كاليفورنيا قطعت الطائرة ذهاباً وأياباً حوالي عشرين ألف كيلومتر ، وهنا تداهمني الذاكرة كيف كان الأوائل يقطعون تلك المسافت عبر البحار وسط تلك الصعوبات التي تعتري سبيلهم ، لقد عرف ابناء شعبنا الكلداني من ابناء تلكيف عن حبهم للمغامرة ، ولهذا كانوا الأوائل من ابناء شعبنا ممن افلحوا في الوصول الى تلك الأصقاع النائية .

وهذا ليس غريباً إذا ما قرأنا عن اول رحلة من الشرق الى العالم الجديد قام بها عراقي موصلي من اصل كلداني وهو الياس ابن القسيس حنا الموصلي الكلداني ، والذي انطلق في رحلته من بغداد سنة 1668 قاصداً اولاً زيارة الأماكن المقدسة وبعض الدول الأوروبية ومن ثم الى اميركا ، وقد طلب من ملكة اسبانيا تصريح يجيز له العبور الى اميركا او كما كان يعرف بلاد هند الغرب ( الذهب والعاصفة ، ص 20 تحرير وتقديم نوري الجراح بيروت 2001 ) . إن هذه الرحلة المثيرة لهذا الكلداني من الشرق  كانت بعد حوالي 180 سنة بعد كروستوف كولومبوس مكتشف امريكا . إنه فخر لنا نحن الكلدانيون ان يكون اول إنسان شرقي الى العالم الجديد ان يكون كلدانياً . أجل إنه العالم الجديد لانه اكتشف عام 1492 وسيكون البون شاسعاً إذا ما قيس بالعالم القديم الذي تمتد حضارته الى آلاف السنين قبل الميلاد والذي كان يشكل قلبه النابض بلاد الرافدين صاحب الحضارات المتألقة في تلك العصور القديمة ، لقد ان انطلق الياس الموصلي الكلداني من العالم القديم الى العالم الجديد .

اليوم ونحن نلوج ابواب العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين نسافر بواسطة الطائرة السريعة ،  وكانت امامي وأمام كل راكب في طريقنا من اوسلو الى نيويورك ، شاشة يمكن التحكم بها للدخول الى عالم الأنترنيت ، والى مزاولة مختلف اللعب المسلية لكي لا يصاب المسافر على متن الطائرة بالملل . إضافة الى ذلك فيمكن لهذه الشاشة ان تعطينا البيانات الخاصة بالطائرة ، فهي تبين لك في لحظة اين هو موقع الطائرة وما هي سرعتها ، ودرجات الحرارة خارج الطائرة ، وكم كيلومتر قطعت وكم بقي من المسافة للوصول الى المطار وغيرها من المعلومات التي تأتيك جميعاً من الأقمار الصناعية السابحة بالفضاء الراصدة لكل تحركات الطائرة .

لكن قبل الصعود الى الطائرة كانت هنالك إجراءات تفتيش الحقائب ، وقد اكتفت فتاة شابة بأن تلقي علي بعض الأسئلة التي تتعلق بحقائبي ، وبعد ذلك لم تحاول فتحها والأطلاع عليها معتمدة على إجاباتي ، ولكن رأيت امامي كيف تسير إجراءات التفتيش الدقيقة إن كان لحقائب او اجسام لركاب آخرين ، في الحقيقة ان مثل هذه إجراءات مهمة وضرورية في زمن يوجد فيه من يحاول تفجير تلك الطائرة وقتل ركابها بغية الفوز بالجنة التي تسمح له بمضاجعة أربعين حورية وربما اكثر فأنا إنسان جاهل لا اعرف اعدادها .

اثناء الرحلة الطويلة هذه ، بين اوسلو ونيويورك والتي استغرقت ما يربو على تسع ساعات ، استرعى انتباهي الحركة الدؤوبة للمضيفات العاملات كخلية نحل او كنملات لا يعرفن الراحة والسكون رغم مظاهر تقدم العمر الذي كان جلياً واضحاً على وجوههن ، ولم تفلح مساحيق التجميل والملابس الأنيقة في تغطية آثار الزمن . إن ما يفسده الزمن لا يمكن ان يصلحه العطار ، هكذا لم الاحظ واحدة من المضيفات يمكن ان تجذب النظر في مقاييس جمال المرأة ، لقد كان الجمال غائباً وبذلك فقدت المرأة امضى سلاحها في كل الميادين .

ورغم ان الرجل حينما يتقدم به العمر ، وأنا مثال هذا الرجل ، حيث تختزل شروطه ومعايره للجمال ، فتزداد عنده مساحة الجميلات ، فتصبح بمعاييره ، كل فتاة شابة جميلة ، وفي دور الشباب كنا ( نتبطر) في اختيار الجميلة ، ونفرض المقاييس الصارمة للجمال ، من لون البشرة وطول القامة  وشكل ألأنف ولون العيون الى آخره ، وفي الحقيقة ان اي شاب محق في وضع تلك الشروط ، لما يمتاز به من قوة وطموح وإرادة الشباب التي لا تقهر . لكن مع تقدم العمر تتراخى صرامته في فرض الشروط ويعكف على تقليل من شروطه فيتساهل ويغض النظر عن نواقص كان بالأمس يفرضها فلم يعد اليوم يعير اهمية إن كانت المسالة متعلقة ببروز اسنانها او كبر نخيرها او ضمور نهديها او قصر قامتها . 

في هذه الرحلة ارتقيت اسوار الذكريات لاستشرف من نافذة الزمن على لحظات عمر الشباب حيث كنت اقطع الشعاب والوهاد والوديان وأتحمل المخاطر من اجل ان اقف امام الحبيبة وأن افوز بنظرة من عينيها الجميلتين ، اما ان اقترنت تلك النظرة بابتسامة فإنني اسعد إنسان في العالم وإن الكون برمته هو ملكي كيف لا وإن الحبيبة قد منحتني ابتسامة من ثغرها الجميل مع نظرة من عيونها الناعسة في صباحات القوش  . هل كنت مجنوناً ام عاقلاً ؟ لكي اقطع تلك المسافات من اجل ابتسامة او نظرة من مآقي  الحبيبة  ؟ ينبغي الأجابة على هذا السؤال من منطق الزمن ، وللحكم على النتيجة ينبغي العودة الى تلك المرحلة ، وعلينا الحكم على الأمور دئماً بمنطق الزمان والمكان ، وإلا سيكون الحكم قاسياً وظالماً .

لقد تحلقت كثيراً في دنيا الخيال والذكريات وأعود الى متن الطائرة التي حطت في مطار نيويورك ، حيث الحركة الدؤوبة في كل الأتجاهات ، الدرجات الكهربائية تنوء تحت ثقل البشر ، لا احد مهتم بك ، وفي الحقيقة لا وقت له للنظر اليك ، لكن هناك من يهتم بك ويسمعك ويجيبك على سؤالك ففي كل منعطف من المعطفات الكثيرة وأمام السلالم الكهربائية المتشعبة هناك من يقف بقربها ويزيل عنك حيرتك في ذلك العالم المعقد ويرشدك الى وجهتك الصحيحة ، وفي هذا المطار كانت وجهتي الى فندق من اختيار الخطوط الجوية ، وقد خيرت إن كنت اخذ معي الحقيبة الكبيرة ام اتركها عندهم وأستلمها في سان دييكو وكان هذا اختياري ، وتركتها عندهم وبعد تسليمها استدركت ان فيها ادوات الحلاقة ، حيث لا يجوز ان احملها في الحقيبة اليدوية ، وهكذا استلمت من الموظفة حقيبة صغيرة فيها ادوات الحلاقة مع فرشة ومعجون الأسنان ومشط صغير .

ركبنا سيارة باص صغير وقديم الى الفندق ، وظهر لي بعد ذلك ان الباصات العامة قليلة الأستعمال في هذه البلاد ، فالسيارات الخاصة تحتل الجزء الرئيسي من وسائل النقل بعكس الدول الأوربية التي تعتمد الى درجة كبيرة على النقل العام من باصات وقطارات تحت الأرض وغيرها من الوسائل العامة لنقل الركاب .

في الفندق في الطابق الأول كان هنالك مطعم وحين دخلت اليه فوجئت بصخب الأصوات منها المنبعثة من عدة شاشات للتلفزة وكل منها تنقل مبارات رياضية مختلفة عن الأخرى ، وهنالك صوت ينبعث من السماعات الموزعة على اركان المطعم وبعدها تصلني اصوات المتحدثين الى جواري ولم افهم شيئاً من هذه الضوضاء ، المهم في اليوم التالي توجهت نحو سان دييكو وهناك التقيت بأصدقاء كثيرين لا سيما في النادي حيث علمت حينها لماذا لم اجد اصدقاء لي في القوش لقد وجدتهم في امريكا وبعضهم قد مضى على فراقنا ربما اربعين سنة او اكثر . ولا اريد ان اذكر الأسماء لكي لا انسى احدهم .

في هذه المدينة ( سان دييكو ) جالية كلدانيـــــــــــة كبيرة من مدننا وقرانا من القوش وتللسقف وباطنايا وتلكيف طبعاً وغيرها من المدن ، لقد رأيت ان القدماء من جاليتنا الكلدانية قد احرزوا مكانة مرموقة في دنيا المال والشهادات العالية والوظائف والمكانة الأجتماعية ، والكلدان المهاجرون مؤخراً لا زالوا يشقون طريقهم بصعوبة ، فالأعمال قليلة قياساً بما مضى من السنين والعقود .

سان دييكو مدينة جبلية وهنالك بيوت وفلل جميلة لأبناء جاليتنا في ذرى هذه الجبال ، وحينما يتطوع احد اصدقائي او من اقاربي لأيصالي الى مكان ما ، غالباً ما يصف المسافة بانها قريبة ( شمرة عصا ) ولكن يتبين ان هذا القرب مسافته حوالي اربعين كيلومتر او اكثر ، والشوارع واسعة إلا انها تفتقر الى الإضاءة في الليل ، وحينما اقول تفتقر الى الإضاءة لا اقارنها بالشوارع العراقية إنما اقارنها بشوارع اوسلو والمدن المحيطة بها حيث تكون الأضاءة فيها كاملة .

لا اكون مخالفاً للصواب إن زعمت بأن أمريكا بلاد واسعة والحرية فيها واسعة بقدر مساحتها ، وكل الأبواب مفتوحة امام الأنسان ، من بينها ابواب الكنائس وابواب الملاهي وابواب الجوامع وأبواب الكازينوات للعب القمار ، إن هذه الكازينوهات عالم قائم بذاته وروادها كثيرين واقدر انهم اكثر من رواد الكنائس والجوامع ودور الثقافة .

في هذه البلاد امام المرء فرص ليشق طريقه نحو العلم والمعرفة او التجارة او الصناعة او في تناول الحشيشة والأتجار بها ، كل الطرق مفتوحة امام الأنسان وعليه ان يختار .

هكذا هي الحياة في هذه البلاد وهي السباحة في تيار جارف لكن هنالك الكثيرين ممن يفلح  ويبدع في هذه السباحة ويفوز بجائزة التفوق في الحياة التي تكون دائماً من نصيب المتفوقين والمبدعين وذوي الإرادة الفولاذية .

حبيب تومي / القوش في 22/ 04 / 2011