تاج لا يراه إلا المرضى /شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, أبريل 15, 2015, 08:08:32 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

تاج لا يراه إلا المرضى




برطلي . نت / خاص لبريد الموقع
   




توجهت الى احدى دور الشفاء الكبيرة لأعود صديقا تعرض لوكعة صحية لم يتوفر علاجها إلا على أسرّة المستشفى . كان هذا المشفى مبنى كبيرا ، يتيه فيه الزائر اذا لم يكن قد جال في اروقته قبل ذلك اكثر من مرة ، او لم يكن قد استعان بدليل ضليع بأزقته وردهاته واقسامه المختلفة . بعد سير حثيث لمدة ربع ساعة،بلغت الغرفة التي كان ينام فيها صديقي المريض .اتضح لي عند دخولي بان مريضا آخر كان يشارك صديقي المقام في نفس الغرفة ،مريض كان قد تماثل تقريبا للشفاء . كان هذا المريض قد كسب ودّ صديقي ،لأني رأيته جالسا بجواره وهو يشرح بحماس موضوعا كان قد قارب نهايته بعد نصف ساعة من تجاذب اطرافه . كان صديقي قد تعرض لحاجة مفاجئة لاستئصال دودته الزائدة ، دودة لم يفلح  الانسانفي معرفة جدواها  فأطلق عليها اسم  الزائدة . وبصدد زيادتها ،  قرأت بانه في بعض الدول يبادر الناس   الىاستئصال هذه الزيادة منذ الدقائق الاولى الطفل !!
سألت صديقي عن حالته الصحية بعد العملية واذا كانت الامور في مسارها الصحيح .أثناء حديثي ، كنت ارى المريض الاخر يقلّل المسافة التي تفصله عنّي. كنت التفت إليه  بين الفينة والفينة لانه جلب انتباهي جدافي إطالته النظر إلى قمة رأسي . لم أعر اهمية كبرى لنظراته في البداية ولكني عندما رأيته قد عقد العزم على عدم خفض عينيه، قمت بمسح شعري قليلا لأتأكد من خلوّه من شوائب تكونقد علقت به ، وعندما عادت اليد خاوية ، قلت له : ما بالك تنظر الى رأسي ،  وكأنك تبحث عن شئ غريب، هل يذكرك شعري بشخص معيّن أم ماذا ، ما الامر؟
ابتسم شريك صديقي في الغرفة ، وطلب مني بمنتهى التهذيب ان ارافقه قليلا  خارج  الغرفة . استجبت لطلبه بصورة عفوية ، واذا بالمريض المتعافى يقودني من ردهة الى ردهة ويشرح لي حالة كل مريض نصادفه ، ومن جملة ما قالهلي ، كان :
اعتذر لفضولي ولكني ارغب ان اشرح لك بعض الحالات هنا وأطرح بعض اسئلة عليك :هل قد تعرضتْيوما احدى كليتيك لعطب ، كما يحدث الان مع  هذا المريضالذي تراه هنا ، انه هنا منذ اسابيع في علاج مؤلم جدا ،  بعضاوقاته الصعبةغير قابلة للوصف ، ولكن عند حلول ساعة العذاب ،  فانه يزأر كالاسد، بالرغم من المسكنات التي يتناولها.
وتابع قائلا ، هل ترى هذا الشخص في الجانب الايسر ،  انه شخص سقط امام داره دون أن يعرف لماذا ، فتهشمت عظامه بصورة لا تصدّق ، تراه الان وهو كالمومياء في قالب من الجبس ، هل تتخيل ما يعانيه ؟  وقال : أترى ذاك الشاب الجميل الذي بُترت ساقاه على اثر حادث سيارة لم يكن هو الطرفَ المسبّب.
وفي ردهة اخرى قال لي : ادعوك للتركيز على هذا الشخص الذي لا يكفّ عن هزّ رأسه ، يقال بانه على هذا المنوال منذ ثلاث سنوات. في ردهة اخرى قال لي :  هل تصدّق  ان يقع الانسان مريضا جرّاء آلام حادة في ظفر ابهامه الذي لا يستجيب لأيّ علاج ؟  وفي  ردهة اخرى قال : هل تسمع صوت سعال هذا المريض ، انه يتنفس بصعوبة كبيرة ، انه يتجنب الانظار لكي لا يضطر للكلام لان هذا الجهد يعرّضهلازمة يصعب عليه الخروج منها. انه يتنفس احيانا بصعوبة تجعلني اراه كالحصان الذي يسحب بصعوبة حملا ثقيلا يفوق طاقته .
وفي ردهة اخرى قال ، هل ترى هؤلاء المرضى الراقدين هنا ، لقد انهكهم الالم.فاجأهم المرض دون استئذان ، احتل اجسامهم واستقر بصورة عشوائية في الرئتين والرأس والامعاء والاطراف والفم ، وقد تمّ ابلاغ البعض منهم بالحكم الذي اصدره المحتلّ الظالم بحقهم ،  فهم الان كالسجناء الذين ينتظرون حكم الاعدام ، دون ان يكونوا قد اجرموا بحقّ أحد.
وهل ترى ذاك الرجل الجبار الراقد دون حراك ، انه  يعاني من اكتئاب حادّ ، احتار الأطباء تماما في كيفية اعادته الى حالته الطبيعية ، وهل ترى تلك المرأة التي لم يفهم الاطباء لحدّ الان داءها الحقيقي ،  وتلك الشابة المشلولة ، وهل ترى الرجل الملتحي الذي هو طريح الفراش منذ اسابيع لمعالجة حبة صغيرة في ظهره افقدته طعم الحياة لانها تكبر يوما بعد يوم . لقد شاهدت عذابه لبضع دقائق ، دقائق لا انصحك بمشاهدتها . وهل اكلمك عمّن قصد هذا المستشفى لمرض في صيوان اذنه ، وآخر في اذنه الوسطى  والآخر لعلّة في خياشيم أنفه وآخر لحساسية في لسانه وآخر في عيونه وآخر لمتابعة علاج غدده التي لا تحصى . هناك المئات من الحالات والامراض التي لا تتخيلها ، تصيب جلد الانسان وكعبه وحنكه ورقبته وعظامه ومفاصله وحتى الحيز الواقع بيثن اصابعه مثلا ، امراض تجهل حتى اسماءها ، ناهيك عما يعانيه الكثيرون وقد اقعدهم المرض وهم في بيوتهم .
بعد جولة استغرقت زهاء الساعة ، قال لي : هل حزرت الان سبب تركيزي على قمة رأسك واطالتي النظر اليها؟   كنت افعل ذلك لاني كنت ارى عليه تاجا كبيرا لامعا جلب انظاري وجذبني منذ دخولك الغرفة . انت لا ترى هذا التاج الثمين ولكني أجزم بان كل مريض مررتَ امامه كان يرى رأسك مكلّلا به ،  ويرى في شخصك مَلِكا أو سلطانا ، لانك وبكل بساطة سليم البنية . لانك لا تشكو من رأسك ولا تشتكي من ألم في يدك ولا قدميك ولا معدتك او امعائك اوكليتيك او اصابع يديك ، ولا ولا ... .
هل هناك نعمة تفوق حالة الانسان الذي لا يشكو من الم في يديه أورجليه أو رأسه وفمه ، أويشكو من آلام في ظهره وعينيه، أواكتشف انسدادا في الكثير من اوردته وشرايينه ،  وهل احتاج الى الخوض في قائمة لا تتوقف الا عند الكيلومتر الثاني؟ هل تعرف بان جسم الانسان وفي اصغر مساحاته وابسط اعضائه ومكوناته  معرّض لالف مرض ومرض ، ولألف الم والم . كان من الممكن جدا ان تكون انت مرشحا لهذه الالام ، ولكنك بعيد عنها وهذا يجعل تاجك لامعا على رأسك دون ان تراه . تاجك لا يراه الا من يتألم ويقول في نفسه هنيئا لهذا السلطان   .
هل جلستَ يوما تفكر بهذا الامر ، وبعد ان تعي السعادة التي توفرها لك سلامة صحتك ، ترفع انظارك الى السماء لتشكر الف مرة ، لتثمّن وتقدّر وتمتنّ وتنحني الف مرة لان ضفرك سليم وعيونك لا عيب فيها ، وجهاز سمعك وبصرك وهضمك وحواسك تعمل بصورة جيدة ؟ ان اصغر جزء متألم في الجسم يدفع البعض احيانا الى الاستغاثة بالموت . هل فكرت يا صاحب التاج ان تلتذّ ، بروح متواضعة ، بالنعيم الذي انت فيه ، هل فكرت في ادامة تاجك لامعا ؟يجب ان تعلم بانه لا فضل لك بحمل هذا التاج لان الاقدار قامت بتنظيف مسارك وازالت منه العقبات ولو لحين .
بعد هذا الحديث الذي لم اكن اتوقعه ابدا ، ودّعتُ صديقي الذي تخلص من زائدته والصديق الاخر الذي حمّلني بمئات الزوائد ، وغادرت المستشفى بمشاعر الندم والاسف . لقد خجلت تقريبا من شعور تخيلت ذاتي  سائراً الخيلاء بين هؤلاء المعذبين ، فكرت بان هؤلاء ايضا كانوا اصحاب تيجان . قررت منذ ذلك الحين ان اعود كثيرا لزيارة المعذبين والمحرومين ، لا لكي افتخر بصحتي ولكن لكي أنزع التاج او اشاركهم في حمله. لكي أزرع بذرة الامل في نفسهم والاصغاء اليهم بصمت ، أريد أن أستأجر القليل من عبراتهم بغية التخفيف  من ضغط خزين دموعهم الذي لا ينضب ،آملاً بالمساهمة في بناء معبرٍ يسهّل عبورهم الى مساحة يخيم عليه الهدوء والطمأنينة . ان الجلوس بجانب المريض ومحاولة التخفيف عنه من خلال دمعة ، او مجرد كلمة او الاحتفاظ بالصمت ، تصرفات تزرع الامل داخل نفسه في اوقات اسعد وايام أجمل لحمل تاجه من جديد .على ذكر موضوع الامل في الحياة ، يحلو لي ان اردّد هذا البيت من الشعر : اعلّل النفس بالآمال ارقبها ، ما اصعب العيش لولا فسحة الامل .
هل بعدما رويته هنا ،سيرفع كل شخص معافىً يديه ليتحسس التاج الذي يعلو رأسه ؟ انه تاج ثمين جدا اعتدنا على حمله وعدم رؤيته ولكن المحروم منه يراه .انها فعلا كلمة حق نطق بها من عبّر من قال :  الصحة تاج على رؤوس الاصحاء لا يراهاحد سوى المرضى ..





Matty AL Mache