المسيحيون مدخل لتحرّرنا كمسلمين / سعد سلوم

بدء بواسطة matoka, يوليو 25, 2014, 07:18:57 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

المسيحيون مدخل لتحرّرنا كمسلمين
لا عظمة للإسلام من دون مسيحية، ولا يمكن تخيل العراق من دون المسيحيين




برطلي . نت
المدى / سعد سلوم

ليس هذا عنوانا استفزازيا اخترناه لإثارة الانتباه، بل هو في نظرنا واقع لوجود حي، لا يمكن اختزاله بموقف او صرخة او مجرد بيان او تحليل، بل هو علامة وجود وبقاء لنا جميعا في هذه اللحظات المصيرية من حياتنا.
اذ لا يمكن اختزال مسيحيي العراق إلى مجرد حضور مهم، ولكن مبهم في الحقبة الإسلامية، وتذويب عطائهم في هامش الانطباع الايجابي عن حقوق الأقليات الدينية في ظل السلطة الإسلامية، فيما عرف بنظام أهل الذمة، من دون أن يتطور ذلك لرصد حقيقي لتطور المسيحية في بلاد ما بين النهرين، وبحث أوضاع المسيحيين على الأرض.
لا يمكن لعظمة الإسلام أن تكون كاملة بدون المسيحيين، فلقد ساعد العلماء السريان على دخول الحضارة العربية الإسلامية في العراق "العهد الذهبي" الذي أصبحت فيه بغداد عاصمة عالمية، وكانت ترجماتهم التراث اليوناني إلى اللغة العربية، الجسر الذي نقل العلوم القديمة إلى حضارة العصور الوسطى. ومن ثم لا يمكن تخيل دور العرب على المسرح العالمي من دون تلك الجهود الثمينة.
هل ينبغي لنا التذكير بأنهم لم يكونوا مجرد جسر ثقافي أسهم في انطلاق الحضارة الإسلامية عالميا، فدورهم لا يمكن اختصاره بمجرد "النقل أو الوساطة الثقافية، فالمرحلة التكوينية في الحضارة العربية الإسلامية اقتضت أن يسهم المسيحيون في بناء نظام مجتمعي ثقافي يستند أساسا، وبصورة طبيعية، إلى الإسلام، وتضمنت هذا الإسهام إثارة أسئلة نقدية، وتقديم عناصر ومناهج تساعد المسلمين على صياغة الأجوبة عن تلك الأسئلة" كما يذهب الى ذلك عدنان المقراني.
في ضوء ذلك؛ كيف يمكن تخيل الحضارة العربية الإسلامية من دون مسيحيين؟ وهل كانت هذه الحضارة العالمية من دونهم لتستجيب على النحو الذي استجابت به للتحديات التي واجهتها وهي في طور إمبراطوري، يقوم على حكم شعوب وأديان مختلفة، من دون التفاعل مع هذه الثقافات؟ وهل كان ممكناً تقديم إنجازات نوعية على صعيد الفكر والفلسفة والعلوم والفن، من دون هذا الدور الذي جرى إغفاله أو التغاضي عنه لصالح نسخة انتقائية من التاريخ؟
ولعل إحدى أكبر حماقات الذاكرة التاريخية، أنها تستحضر طبيعة العلاقة بين المسيحيين العرب والغرب، وهي تحاول ربطهم اليوم بسياسات الغرب تجاه الشرق والعالم لإسلامي من دون أدنى اعتبار للفروقات الثقافية بينهم وبين مسيحي الغرب. أو تجنب ارتباط مسيحيي الشرق الصميمي بأراضي الآباء والأجداد في صورة نمطية تشوه حقيقة هوية المسيحية الشرقية وتراثها ومواقف المواطنين المسيحيين.
لم يكن المسيحيون عنصرا دخيلا أو طارئا، ولا امتدادا للغرب المسيحي، بل تصدوا لكل محاولة تشويه لثقافتهم أو إلزامهم على تبني نسخة إيمانية أخرى تتطابق مع صانع قرار غريب عن بيئتهم الشرقية.
المسيحيون ليسوا عملاء أو حصان طروادة أو طابور خامس للقوى التي تحدت وغزت دول المنطقة، بل كانوا وسيظلون جذورا تربطنا بحضارتنا الأولى، وشركاء ومساهمين فاعلين في بناء الحضارة الإسلامية، كما في بناء الدولة الوطنية في العصر الحديث.
وبإلقاء نظرة استعادية لهذه التركة الحضارية لمسيحيي الشرق، هل يمكن التبجح بأدني درجات الموضوعية، إذا انسقنا مع الآراء السطحية واللئيمة، التي تجدهم مسؤولين عما فعله الغرب عندما استعمل المسيحية لأغراض سياسية، على النحو ذاته الذي استعمل فيه الخلفاء والحكام المعاصرون "الإسلام" في بلداننا لتبرير سلطتهم، وتحميل الأقليات الدينية وزر أفعال بعيدة عن نيتهم وعقلهم وروح عقيدتهم وارتباطهم ببيئتهم.
أما الحوار العقائدي فيما يعرف بـ"أدب الردود"، فقد اختصر باب الحوار على تمركز بغيض على الذات وإلغاء الآخر، من دون أدنى اعتبار لـ"حوار الحياة" الذي يتقدم بخطوات على حوار العقائد وأدب الردود وتخريجات الفقه المجردة للحقوق والواجبات والحلال والحرام.
لقد حفظ "حوار الحياة" الإسلامي المسيحي عقد التعايش في مجتمعاتنا لقرون قبل أن يخترع الغرب خطاب حقوق الإنسان، ويرفع أدوات الحداثة الديمقراطية من أجل دفع مجتمعاتنا للانفتاح على الآخر الخارجي (الغرب)، كما على الآخر الداخلي (المسيحيون وبقية الأقليات الدينية).
لا بد من التحرر من أثر الماضي الذي أُول انتقائيا في نظرتنا إلى المسيحيين، فلا نراهم من خلال نافذة الذاكرة الأحادية، أو إرث التاريخ الصليبي وتبعاته، بل أن نستعيدهم مواطنين وشركاء حاضرين في الوطن؛ التحرر من ظِلال نظام أهل الذمة (الثقافة الذمية)، بوصفه جزءاً من التاريخ وقراءته في سياقه الزمني، والتخلص تماما من تأثيره في سلوكنا
وعقلنا (الذمية الاجتماعية).
وأن نتحرر من أشباح (ثقافة التمييز) التي تغزو ثقافتنا المعاصرة، مصنفة البشر إلى مراتب بحسب معتقداتهم، فتجعل من المسيحيين مواطنين من "درجة إدنى" لكونهم غير مسلمين. وأن نتحرر من ذاكرة التخوين النابتة من آسنة رماح الحروب الصليبة، التي طالما أسيئ فهمها وتوظيفها ضد أبناء أوطاننا من المسيحيين الشرقيين الذين كانوا -وقبل المسلمين- أول ضحاياها. وأن نتحرر من ذكريات حدود نظام الملل العثمانية (الثقافة الملّية)، الذي حصر المسيحيين بعيدا عن مجتمعهم، وجعلهم دولة داخل الدولة، وترك المجال أمام الدول الأوروبية لتوظف مسيحيي أوطاننا في مشروعها الاستعماري، وتلحقهم بثقافتها، وتسرق روح كنيسة المشرق الحية.
أن نتحرر من كل هذا العبء هو مدخل لتحررنا كمسلمين، ومقدمة لاستحضار تراث التعايش والمشاركة الخلاقة قبل أن تتحول شعلته إلى رماد، وهو باب لـ "إحياء الشراكة" في الوطن على قاعدة المساواة والمواطنة (ثقافة المواطنة).
يترك الانفصال الإسلامي/ المسيحي عن الأخوة الإيمانية والوطنية والحضارية آثاره السلبية في المسلمين قبل المسيحيين، لاسيما مع حالة الدوار الطائفية التي تمر بها المنطقة، والتي تمزق عالم الإسلام اليوم إلى ثنوية رهيبة؛ شيعية/سنية. وبعد أن وصلنا إلى مرحلة من الانحطاط في التعامل مع غير المسلمين على نحو يفارق ما رسمه القرآن من "إخوة إيمانية" ومن سلوك الرسول والجيل الأول من المسلمين.
وبعد أن فقدنا الإسلام الحضاري الذي تحول إلى "إسلامات حصرية طائفية"، يعاد تأويلها لصالح حركات الإسلام السياسي والجماعات الارهابية المسلحة، بما تنطوي عليه من رفض للآخر، ولمنطق إدارة التنوع للدولة الوطنية المعاصرة الذي يتضمن وصفة خلاص للجميع.
لطالما كان المسيحيون الشرقيون للمسلمين فرصة ووعدا بكل ما هو زاخر بالمعنى والأمل والإيمان والشراكة الخلاقة. فالمسلمون الأوائل كانوا يتطلعون في المسيحيين إلى مثال الإيمان والأخوة في الله، في مقابل الآخر غير المؤمن (الوثنيين). وكانت قصة "نصارى نجران" المعروفة بقصة أصحاب الأخدود، تضرب للمسلمين بوصفها مثالا قرآنيا على التمسك بالإيمان، فالمؤمن الذي يقتدي به المسلمون الأوائل كان هو المسيحي!
من جانبهم، قدم المسيحيون في بواكير الإسلام مثالا آخر على نجدة إخوتهم في الإيمان (المسلمين) حين يتعرضون لاضطهاد مواطنيهم الوثنيين، إنها تجربة الإيمان المشترك الذي يتعرض لخطر الاضطهاد، والذي اختبره المسيحيون في إيمانهم. فكان موقف الملك المسيحي "النجاشي" في تقديم الملجأ للمسلمين، ورفضه تسليم أخوة الإيمان من المسلمين لأهل مكة الوثنيين في العام 615م. كما هو معروف، كانت الرسالة التي حملها النبي للنجاشي الجزء الأول من سورة مريم (أم المسيح)، فكانت بمثابة إعلان انتماء أو قربى. أليس في هذه القصة دلالة عميقة على أن الملجأ الأول للمسلم في درب الإيمان كان هو المسيحي! هكذا كان يجري تفسير التفرقة بين فسطاط "الكفر" وفسطاط "الإيمان" في انبعاث الإسلام الأول بين أبناء إبراهيم، وليس التأويلات الرهيبة لفقهاء اليوم ممن يضعون أخوة الإيمان في خانة الكفر.
"المسيحي" الذي هو مثال الإيمان للمسلم وملجأه الأول كان شريك الإيمان في عالم يتشكل من جديد، فعندما أصبح الإسلام دينا، ذا نفوذ واضح في الجزيرة العربية، تقاطرت القبائل المسيحية مثل غيرها من القبائل العربية في الجزيرة من أجل الحوار أو عقد الصلح مع اتباع الدين الجديد، وقصة "نصارى نجران" تضرب مثالا بليغا لأخوة الإيمان، فقد سمح الرسول لـهم بالصلاة في المسجد عندما حان موعد صلاتهم، أليست هذه دلالة عميقة لا تقبل تأويلا آخر عن مقدار الشراكة الإسلامية المسيحية في الإيمان بحيث تضمهم دار عبادة واحدة؟
وليس بعيدا أن تتمظهر الوحدة الإيمانية عمرانيا فيما بعد في جوار شعائري مسيحي إسلامي تمثله دار عبادة مشتركة للخالق، وهي كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق التي أصبحت الجامع الأموي فيما بعد، أصبح المسلمون يصلون فيها لله، والمسيحيون يؤدون صلاتهم في نصفها الآخر. المسلم والمسيحي يصليان معا في جوار شعائري، مسلمون يتوجهون إلى القبلة، ومسيحيون يتوجهون إلى الشرق، إنه ليس جوارا جغرافيا، بل رمزا على الجوهر الواحد للأديان.
فأين مثال هذه القصص ممن يرفضون اليوم مصافحة المسيحي، أو دخول منزله، أو تهنئته بأعياده، أو مشاركته أفراحه، أو زيارة كنيسته، أو فتح باب عبادتهم لزيارة شريك الإيمان؟
وهل من وقفة جادة لمراجعة التاريخ والتأويل الانتقائي والمتحيز للنص المقدس لصالح ثقافة تمييزية تطرد "الآخر" الذي هو جوهر "الآنا" ومعنى وجودها ورمز تكاملها.
وإذا كنا اليوم في مواجهة نخب سياسية تتاجر بالهويات، وتتلاعب بالماضي خدمة لأغراض مرحلية، وتستعمل الخوف من الآخر لتبرير وجودها، فإنه من دون أن نكون صريحين في مواجهة مخاوفنا من التسييس الهائل لحياتنا وهويتنا وذاكرتنا، لا يمكن أن نعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، ونحافظ على حاضرنا من التمزق.
لا يخدم تسييس الهويات والتلاعب بالذاكرة سوى نخب ضيقة تتلاعب بمشاعر الجمهور وعواطفهم، إذ يخلق تسيس الهوية والتلاعب بمشاعر الجمهور "عدوا داخليا" يعيد انتاج صورة عراق منقسم على نفسه، تتصارع مكوناته مع بعضها لصالح نخب سياسية تغطي على فشلها في إنتاج "دولة مدنية" ضامنة لحقوق الجميع؛ أفرادا وجماعات.









Matty AL Mache