قراءة في المجموعة القصصية ( أصابع الليل ) للقاص امير بولص عكو / يوسف يعقوب متي

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مارس 04, 2015, 12:13:04 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

قراءة في المجموعة القصصية ( أصابع الليل )
للقاص امير بولص عكو


برطلي . نت / بريد الموقع
يوسف يعقوب متي

                                                         تلميح بكلمة حق

رجلٌ على أبواب العقد السادس من عمره ٍ، سطِّر على أوراقٍ بيضٍ ما نحتته أيام حياته في عقله وروحه، وخوالج نفسه الرهيفة، ليجعل من تلك الأوراق الصماء المنسية التي إنتظرت طويلاً من يجعلها تنطق . سطَّرها بكلِّ هدوءٍ كهدوء السماء ، وهدوء ليالي أيام زمان الطفولة ، حين كنَّا نعيش في بلدتنا "برطلي  " الحبيبة ، وقت لا وجود لصوت الرصاص وصوت الفضائيات التي تنقل إلينا كلّ ساعة بل كلّ دقيقة أصوات إنفجار العبوات المفخَّخة ، التي ملأت أرضَ العبادِ شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً . كنّا حين ننام ونحنُ أطفال ملئ جفوننا فوق أسطح دور أجدادنا ، كانت براءة الليل تغطِّينا بكلِّ رفقٍ وأمانٍ ، وكان عرسنا الليلي المزركش بالنجوم والكواكب ، لا يشوبه إلا بعض الدقائق الساخنة من مطاردة رجال برطلي ، للصوصٍ جياعٍ يبحثون عن دجاجةٍ أو خروفٍ صغيرٍ ، يملئون به بطون أطفالهم الخاوية التي يطويها جوعٌ مستديمٌ ، خيَّم على طفولتهم الإنسانية البريئة ، ليفرحوا قبيل الفجر فرحاً زُيِّفَ لهم ، لا يشعرون بزيفه ، ولا بما يحمله من خطايا حين كانوا يرون آبائهم حاملين غنائماً متواضعةً ، أبرياء كبراءة المسروق منهم حاجياتهم ، والذين يحزنون حزناً طفولياً ، سرعان ما ينقلب إلى فرحةٍ بقطعةٍ من الحلوى ، ولكنه يبقى منحوتاً في عقولهم ، يجترونه للذكرى المضحكة حين يصبحون يافعين . سطَّرَ قصصه القصيرة التي ملأت كتاب "أصابع الليل"، نعم كتاباً وليس كتيِّباً ، لأن كتب الأدب بما تحويه من روائعٍ ليس بعدد صفحاتها ، سطَّرها بجميل مفرداتِ لغةٍ لا يظنُّ أغلب الناس إنها آرامية ، حيث إستلَّ مفردات الحزن الممزوج بالفرح ، والفرح الممزوج بألم الفراق ، والأمل الممزوج بالضياع والتشرُّد ، وجمال المرأة الممزوج بالأنوثة المنسية ، ومسرَّة إحتفال عيد الميلاد المجيد في الغربة الموحشة المدسوسة في عقول الفارين من ليل الحرب الطويل ، وحرص رجال الليالي الطوال في نوباتهم لحراسة الأبرياء ، النائمين نوماً شتائياً عميقاً ، وتخيُّلات بَحَّارٍ تائهٍ في بحور الغربةِ المرصَّعةِ بذكريات البلدة الحزينة المدنَّسةِ بالأغراب ، وتأمُّل إمرأةٍ رقيقة المشاعر غادرها شريك حياتها إلى السماء لتلتقي روحها بروحه في الدنيا قبل الآخرة ، حكمةُ إمرأةٍ تُخفي آهاتها عن وجوه أطفالٍ ، وتُقَطِّع خيوط مسامعهم لئلا يشوبها خيطٌ حزينٌ ، وتُسمعهم نغمات الحنان الأمومي المعطَّر بقرنفل الفرح ، وهي تخفي آثار خناجر طعن الزمن في قلبها ، ومشاعرُ طفولةٍ تنتظر في ليل عيد ميلادها ليزُّفَ لها والدها هديتها الملطَّخةِ بدمه الزكِّي أجراه سفَّاحٌ أشَّرُ من الشرِّير أفعاله ، وموعد عيد زواجٍ تبخَّر من ذاكرةِ رجلٍ مثقلٍ بهموم الدنيا تجسِّدها له زوجته الوديعة في عشِّ سرقته من أيام الألم والنوح ، وأحلام يقظةِ يومٍ باتت متجسِّدةً لشابٍ جامعيٍّ بحضرة زميلته الجميلة المليئة بعطرِ الأنوثةِ . سطَّرتَ ما سطرتهُ جليَّاً من أنيق المفردات والجملِ المسبوكةِ بيد متدرِّبٍ تظهر عليه ملامح مَن إتَّقن فن صياغة التبر المرصَّعِ بالياقوت والزمرد والعقيق . ملأتَ الأوراقَ الناصعة البياض بجواهر كلمات ترقي بالنفس البشرية في زمنٍ غفا به القلم على أنغامِ الكسلِ والقلقِ والضياعِ ، وغابَ عن أيدي بنات وأبناء السريانِ في بلدتي برطلي ، أحفاد من ملأت بناتُ أفكارهم مدارس الدنيا . وبهذا إستلهمتَ الخبرة الميدانية الانسانية وصنعت روائع ذات طابع جمالي وهي رسالة نهوض الى الشباب . وهنا أريد أن أشير إلى موضوع مهم جداً ، إن هذا الاستلهام يَهبُ في كثير من الأحيان قدرة الغوص في أعماق النفس البشرية وكشف مكنوناتها , وهكذا إعترف فرويد مؤسس "التحليل النفسي الحديث" مراراً بهذه الريادة ، وأطلق على أهم العقد النفسية التي إكتشفها إسم "عقدة اوديب" ، نسبة لما وجده من وصفٍ مسبقٍ لها في مسرحية سوفوكليس "اوديب الملك" . وهنا في بعض نصوص قصصك تعالج ما يدور في خوالج النفس الإنسانية من شعبنا ، حيث ضُغطت أهوائه وأصبح ألمه داخلياً ، ليصارعه وحده ويعالجه بإحياء الذكرى , ولو أُطلقت هذه الطاقة الكامنة "الأهواء" باتجاه خدمة الإنسان ، لصنعت المجتمع الراقي الذي نصبوا إليه جميعاً ، مجتمعاً ملؤه محبة الله ومحبة الانسان . فيا فرحتي حين أقرأ لشاعر وكاتب سرياني من أبناء وبنات برطلي بهذه الكلمات البسيطة ، أشكرك يا أخ "أمير بولص ال عكو"، لما أنتجته من فكرٍ ، وأكيد أن الفكر الجميل هو نتاج العقل الجميل ، لأنك عدا ما أظهرت من قصصك الجلية باحداثها , والواقعية بمشاعرها , ورهافة أسلوبها , ودقَّة وصف أحداثها . هناك في طيات جملها وظلال كلماتها ، كمٌ هائلٌ مما سرقته الأزمنة ، ولصوص العصر من أحلام الطفولة وأمنيات الشباب الوردية ، والنتاج الهائل للرجال الذين أكل وشرب الدهر من وجوههم الموسومة بعلامات الشقاءِ والكدِّ , منهم من رحلت روحه الى السماء ومنهم من يصارع أيام البقاء على الوجود الأرضي ، وإنك تذكرني بقول لي قلته قبل خمسة عشر عاماً "كل جميل عمره قصير وأن لم يمت ميتة طبيعية قطفته أيدي الطامعين" ، فالجميل من الأفكار يُسرق , والجميل من الأمنيات يُقتل, والجميلُ من الأعمالِ يهدم , والجميل بالأخلاق يحارب ... الخ. وكأني بك ، تنطقُ بقصصِ كلّ الأجيالِ السابقةِ ، وإن أستطيع القول ، ولا أبالغ فإن لسان حال هذا الجيل والجيل اللاحق نطقتْ بها قصصك الرائعة . تقبل تحياتي ، تحيات قارئ ملَّت عيناه صفحات الكتب والقواميس ولا يُطيبها إلا قراءة بديع الكلمات وجميلها ، ولا تتلذَّذ مخيلتي الفكرية إلا بقراءة قصصٍ كقصصك وقصص المبدعين أمثالك. 

يوسف يعقوب متي رئيس اتحاد بيث نهرين الوطني
عنكاوا 28 / 2  /2015