حول نظريات المطبخ الأميركي وأساطير العائلة العراقية  سعد سلوم

بدء بواسطة ماهر سعيد متي, أبريل 10, 2015, 06:18:51 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

ماهر سعيد متي

حول نظريات المطبخ الأميركي وأساطير العائلة العراقية

 سعد سلوم

اليوم العشرون من الحرب، يهطل المطر أخيراً، نشم رائحة الأرض بعد المطر وتنقشع رائحة البارود، ينهض الخوف البدائي من الرعد بدل الارتجاف هلعاً من أصوات الانفجارات.
خمسة آلاف سنة عراقية تتقابل مع خمسمئة سنة أميركية، أقدم حضارة مع أحدثها.. هل هذه حقيقة أم تراها محض سراب؟
الحدود الفاصلة بين العقل والجنون انمحت وأصبح الواقع أغرب من الخيال.
للمطر أثر تطهري، فعل رمزي محرر أكثر من قوة التحرير أو الاحتلال،   يساعدني المطر على أن أرى بصورة واضحة...فأميركا ليست أحدث حضارة فحسب بل هي أقدم دولة في العالم ...خمسة قرون من التراكم البطيء للمؤسسات والتقاليد، إنني عطش وجائع للغاية، و تاريخ بلادي الموغل في القدم، لا يقدم شيئا، ولا حتى رشفة ماء.
هنا بدأ جدي الأكبر الذي نسميه "العراق التاريخي"  يخضع للاختبار، أصبح جدي الذي يتحدث الجميع عنه في الكتب والتلفاز عبئاً يجب التخلص منه أو... قتله.
من حولي ترتسم خريطة الشرق الأوسط في ظل المعادلة أيضا. جدٌّ قويٌّ وأب ضعيف، مجتمعات قديمة ودول حديثة. مجتمعات تعددية غنية ودول بمنظور أحادي قسري.
ما الذي يمكن أن تقدمه مصر الفراعنة لأرض الكنانة الغارقة في فوضى الربيع العربي ؟ ما الذي يمكن أن تقدمه دويلة المدينة القديمة لسقراط وأرسطو وأفلاطون لليونان المعاصر والمحاصر بحسابات الأزمة الاقتصادية العالمية، ما أهمية التراث الكونفوشيوسي العتيد في كيمياء النجاح الصيني المبهر، عمنا "ماو" وقف ذات مرة ليخاطب أكبر شعب في العالم، انتصب شاتما جده كونفوشيوس :  التغني بالماضي القديم، يا له من أيديولوجيا غبية، إنها روث، حسنا .. الروث أفضل من الأيديولوجيات لأنه يساعدنا في زراعة الأرضي!   
سأقول  من دون تردد : الحرب حررتني من عبء الجد العظيم، ومن حكمته التي لا تساعدني في اجتياز سيطرة وهمية، من تاريخ لا يقدم لي إجابة مقنعة لسؤال القتلة عن كوني من أبناء عمر أو علي،   كلكامش ونبوخذنصر وسرجون الأكدي  وحمورابي أجداد مزيفون، فهم ليسوا سنّة أو شيعة، وبالتأكيد لن تمنحهم الدولة حق الانتخاب أو الترشح اليوم، وإذا حدث أن بعث أحدهم حيا في دول المنافي وتقدم للسفارة العراقية، فلن تمنحه جواز سفر عراقياً، فما صلة أبناء ما "بين النهرين" القدامي بأبناء ما "بين الحربين" اليوم.
الخير هو أن نحتفظ بشعلة الأجداد لا برمادهم .. وهنا أقتبس من جوريس.
ليس الجد وحده بدا عديم الفائدة، بل كان الأب الذي يحتضر مشرفا على الموت أيضا، .. وقد قتله الأميركيون أخيرا في حربهم العابرة للنظريات.   
كان الأميركيون مثل مخلوقات فضائية هبطت على أرضنا، أو انتقلت إلينا عبر "بوابة النجوم" كما في الفيلم الشهير عن الانتقال من زمن إلى آخر.  كانوا قتلة من نوع جديد، يريدون حذف نموذج قديم بالٍ لكي يعمموا نموذج حياة جديدة على امتداد  عشائر الشرق الأوسط.
أنجز الأميركيون في العراق عملية قتل رحيمة، فأطلقوا رصاصة على "الأب" الذي عاش العراقيون تحت خيمته منذ العام 1921.
فتحوا اختبارا تجنبنا الخوض فيه منذ أكثر من ثمانين عاما، إنه اختبار العودة إلى الأم، الرحم الأول للطبيعة قبل أن ننطلق في عالم التاريخ. وإذا اقتبست من  "دوبريه"  فقد كانت (الدولة/الأب) هي أسوأ الشرور باستثناء تلك التي تنجم عن غيابها.
ما اختبرناه بعد 9 نيسان كان هو العودة إلى مرحلة ما قبل الدولة (المرحلة صفر) ،أي العودة إلى شرائع الجماعات والطوائف، أي إلى رحم الطبيعة العمياء، إلى ثقل حريتنا الأصلية، وإلى سؤال "نعم" أو "لا" أو "أكون" أو لا "أكون". 
الخير والشر نسبيان في معركة الأب والأم، الطبيعة والتاريخ، كلاهما جيدان وسيئان، أحب أمي وأبي وأكرههما في الوقت ذاته، والتمييز بين الأشياء يضحى صعبا بل مستحيلا،  المحرر محتل، الوطني خائن، السيد عبد، الضحية جلاد، ترتدي الرذيلة لباس  الفضيلة، ويتمثل الخير للعراقي  في كل ما كان يمثله الشر،  أصبحت الدولة هي الخير المطلق بعد أن كانت الشر المطلق، "اللوياثان" الذي دمر أجيالا وفرصاً وأزمنة،  "سي السيد" الذي نحب أن نغسل قدميه في الطشت بشعور مازوشي من الخضوع المريح، ونشتاق إلى بطشه وجبروته وقبحه وأشكال عبادته، عنف  "سي السيد"  وظلمه أصبح  أكثر رحمة من عنف طائش وعشوائي في ظلام الزقاق، حيث تنتظر فلول البلطجية  التي تتاجر بـ : الطائفة، العشيرة، الحزب، الدين، الأمن، الأمة، السيادة، الاستقلال، الحقيقة، الخلاص،الخ.
التعلق الأوديبي بالدولة/الأب يكشف  نوع العلاقة القهرية مع دولة وقعنا أسرى في قبضتها لعقود وتعلقنا بها تعلق المخطوفين بأشخاص خاطفيهم. ففي جميع الأحوال كانت هذه الدولة "المحور" الذي انتظمت حوله "الأمة" مثلما تلتف العائلة حول "الأب" وتنفرط بموته.
لم يغرم شعب بالأب مثلما أغرم العراقيون بالدولة في نوع من الصلة المازوشية : لا أستطيع العيش معها ... لا أستطيع العيش من دونها. وحين قتل أبناء "العم سام"  الأب في 9 نيسان انفرط عقد الأبناء، أصبحنا نهبا لذئاب التوسع من جيران العشيرة المترقبين على الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية، إيرانيون مع صورة خامنئي وسجادهم الذي يشبه سياستهم المحاكة بصبر وتأنٍ، أتراك مع صورة مهند ونور وسلاح المولات (مراكز التسوق) الذي يمد حدود إمبراطورية بني عثمان الناعمة، سعوديون مع صورة بن لادن ومليارات عاصمة الإرهاب العالمية، وآخرون مع صور مختبئة لعرض مسرحي مقبل. 
إلا أن قتال الأبناء مع بعضهم بعد موت الأب (الدولة/الأمة) لم يضمن السيادة لأيّ من الأبناء الثلاثة الكبار (الكرد-السنة-الشيعة)، فلا يمكن من بعد سقوط التمثال الحديث عن استئثار مطلق بالطبق كله، أو حيازة سلطة الأب (كما يحاول الابن الحالي الممسك بزمام السلطة أن يفعله اليوم) ،لأن إعلان مثل هذا الانتصار على الإخوة مرادف للموت، ما دام الآخر/العدو ليس سوى جزء من نسيج الأنا ومغزى وجودها. 
ومقولة (إذا حصلناها بعد ما ننطيها) تصبح مفردة أساسية في قاموس علم النفس العراقي، وتفسر إعادة إنتاج أيقونة الأب في سياق مجال يتشكل بالصور المستعادة ويقوم على عبادة الموتى.
الأميركيون دخلوا المطبخ الذي أسسه البريطانيون من قبلهم،  ووجدوا "مكونات" تصلح لعمل طبخة أغلبيات وأقليات، ليس غريبا أن يسميها الدستور العراقي "مكونات"  أيضا، في شعور بكونها أخلاط من قائمة طعام مفتوحة.
كانت هذه "المكونات" مطبوخة على نحو جيد منذ عقود، ووفقاً لنظرية "قدر الطبخ السريع" فإن أشكال الصراع الإثنوطائفي تختمر تحت غطاء قدر الطبخ، والسلطة بمقاربتها القمعية للتعددية  تحفز هذه التطورات. 
الأميركيون رفعوا الغطاء فحسب، وبهذا كان عراق آخر لم نكن نتخيله، عراق بدا غريبا عنا في بخار رسم صورة جديدة على المرآة، مفزعة حقا ولكنها حقيقة للغاية، أكثر مما ينبغي.
البعض ما يزال في حالة إنكار لصورته في المرآة، لذا أسوق نظرية أخرى ليست خارج المطبخ بأي حال، فوفقاً لـ"نظرية الثلاجة" كانت السلطة مثل براد (فريزر) حفظت الروائح الكريهة التي تعود إلى الفترة السابقة، وحين حطم الأميركيون الفريزر بمفك الثلج انحلت بذرة الماضي وانطلقت أشباحه الدامية على نحو صادم وغير متوقع.
هل حفزتنا الروائح الكريهة للماضي أن نهرب إلى أنفسنا، أم نهرب إلى ماضي الأب وصورته المعلقة على حائط الذاكرة. كان هذا اختبارا عمليا لـ"نظرية الهرب"،ومؤداها أنه عندما تنكسر قبضة السلطة يملك الناس أنفسهم أول مرة، ولكنه يعانون  الخوف، الخوف من الحرية الجديدة التي ليس من السهل تحمل مسؤوليتها، فيهربون إلى أشكال جديدة من الإذعان، وبالضرورة وفي ظل الأوضاع الاجتماعية الجديدة فإن أشكال الخضوع لهوية إثنيه طائفية سيقدم لهم الراحة.
لذا سمعنا كثيرا هذه المقولة : راح صدّام ،لكن هناك صدّامون بعدد رؤساء الجماعات والأحزاب والقبائل. أعدت قراءة كتاب أريك فروم "الخوف من الحرية" وأنا أبتسم لفكرة أننا نحن من نخلق الدكتاتور في النهاية.
لا دكتاتورية من دون شعب يخلقها، لا دكتاتورية من دون أوهام، المتاجرون بالأوهام لن يتوقفوا عن بث الأساطير في الناس، وهل يمكن أن تكون زعيما من دون عرش من الأوهام؟
تعلقت إحدى هذه الأساطير والأوهام  بشكل خاص في من له الفضل في قتل الأب  .  وفتحت قائمة لمن يعود لهم الفضل في القتل أو الشروع فيه أو التمثيل في الجثة.
كان هذا عصر التنافس بين القتلة ونسخهم الخاصة من التاريخ. أكاذيب تشبه الحقيقة وتصنع التاريخ، أتذكر هنا تعريف روسو للتاريخ : هو الكذبة التي تشبه الحقيقة من بين كثير من الأكاذيب. التاريخ أصبح فعل اختيار، وإذا كنت في السلطة فأنت من يختار، ومن ثم تصنع التاريخ.
وبعد سنوات من التنافس الواضح على مرحلة قتل الأب، بدا من المهم التفكير في مرحلة  ما بعد الأب، كيف سينسحب القاتل الأصلي من المطبخ تاركا الميدان مفتوحا لقتلة مزيفين،  نشأت هنا أسطورة استعادة السيادة، وغذّى السياسيون الأوهام حولها، من سينجز استعادة السيادة سيصبح هو الأب الأوحد، الأب الجديد ليتامى متنافسين.
سيناريو الأسطورة الجديدة ينكر أن هذه سفينة تايتانك المشرفة على الغرق، بل يقدم نسخة هوليودية من فيلم "الاستقلال" حيث سيتحرر العراقيون من هذه المخلوقات الغريبة القادمة من الفضاء الخارجي.
هل كان العراق يوما كامل السيادة؟ وما هي السيادة في دولة لم تكن يوما تمتلك مقومات دولة ؟ إن أسطورة "السيادة" تغفل عن واقع تعدد مستويات الدولة وتباين درجاتها، كيانات كثيرة تنتفخ بوصفها "دولة" لكنها  لا تمتلك من مقوماتها ما يؤهلها لكي تكون كذلك، فهي ليست سوى شبه دولة، وسيادتها ليست سوى سيادة قانونية (بوصفها عضواً في الأمم المتحدة على الأقل)، لكنها لا تمتلك سيادة فعلية على أرضها.
وفقاً لهذا لا يتعدى عدد الدول في العالم أصابع اليد، في حين تمتد أشباه الدولة لتغطي غابة المعمورة مغذية أوهام الاستقلال والقرار الوطني والتحرر في ظل عولمة ساخرة من الحدود والأوهام.
زعماؤنا يتحدثون عن استعادة "السيادة" ونحن شبه دولة، لا نتملك من السيادة سوى شكلها القانوني. في حين تتقاسم دويلات الأمر الواقع أشلاء (الدولة/الأب)  والتي لم تكن في تاريخها سوى "شبه دولة" على أحسن تقدير.
تمثل دويلات الأمر الواقع  سلطات الأبناء الذين يسيطرون على الأرض والسلطة في مكان محدد مؤسسين دويلة بحكم الأمر الواقع.  بغداد العاصمة خارج دويلة المنطقة الخضراء، كانت، لسنوات مجموعة من دويلات الأمر الواقع، ولم يكن باستطاعتك أن تنتقل من حدود دويلة إلى أخرى إلا إذا حملت جواز سفر يحمل اسم "عمر" لتستبدله بجواز سفر آخر يحمل اسم "علي" حين تنتقل إلى الدويلة الأخرى.
عمر وعلي ليسا شخصيات تاريخية مستدعاة من الذاكرة، بل هما زميلان في المدرسة، يتصارعان في الباحة الخلفية لمنزلنا، داخل سيارة الأجرة، في السوق والشارع وعلى صفحات الجرائد.
إنهما الأبيض والأسود في ثنوية عنف يهيمن على حياتنا : ينعكس على فنجان قهوتنا في الصباح، يتسرب من الأغاني التي نحب، نرى ملامحه في المرآة في ظهيرة يوم قائظ، يرسمه أطفالنا على سبورة الدرس، ويلتمع في شعارات الجدران وأسماء المحال التجارية والإعلانات، ويتخفى وراء طريقة قيادة السيارة، واختيار لعب الأطفال، إنه طالب في المدرسة، وأخ في المنزل، وبائع خضراوات  في السوق وزعيم على شاشة التلفاز، هو زميل وصديق وجار .....وطريقة حياة.
إزاء هذه الأوهام التي تملأ المكان، والمتاجرون من جميع الأصناف والألوان،  هل يمكن أن نتحدث عن حرية أو تحرر أو استقلال، إنني أنتمي إلى "أقلية" لا تريد الانتماء إلى أجداد وهميين، أقلية تقاتل ضد الأوهام والخرافات، ضد سلطة الماضي الكاتمة الأنفاس، أقلية تقاتل ضد القتلة وسلطة الحاضر التي تؤسس لإعادة إنتاج سلطة الأب.
ليست هذه نهاية القصة أو نهاية المقال، ليست سوى مجرد بداية لدفاتر ما بعد 9 نيسان،  لصحوة أو انبعاث أمل في التحرر من عبء الذاكرة ، ولجغرافيا تعانق التاريخ،  للتفكير في غد  يمكن فيه لمجتمع أن يساوي الدولة، ولفرد أن يساوي الجماعة، ولأقلية تساوي الأغلبية، وأخيراً لكي يتصافح عمر وعلي في منتصف الطريق.

http://www.almadapaper.net/ar/news/442686/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D8%A8%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%88%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة