الحياة برمتها مشاريع لكتابة قصائد الشاعر الأب يوسف سعيد -2-

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مارس 04, 2014, 07:57:14 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

الحياة برمتها مشاريع لكتابة قصائد
الشاعر الأب يوسف سعيد -2-



صبري يوسف

بهذه الصُّور والحالات المتفرّدة، والمصحوبة بالغرابة، يكتب الشَّاعر نصّه حول صاحب الزَّمان، فتارةً يصوِّره كإنسان يستنزف من أصابعه رعشة الأشواق، وتارةً يصوِّره وكأنّه شاعر يقرأ قصائده في الصَّباح الوليد، وتارةً أخرى كموسيقي يعزف على قيثارته مزاميره الرَّقيقة! ..

ما هذه الفضاءات الشِّعريّة الّتي يحلِّق فيها الشَّاعر عبر تجلِّياته الرَّحبة، مركِّزاً على صاحب الزَّمان، أحياناً يحسُّ القــــــــــارئ وكأنَّ الشَّاعر يعرف صاحب الزَّمان معرفة عميقة، وأحياناً أخرى يبدو وكأنّ الشَّاعر لا يعرفه على الإطلاق! ..

هذه المفارقة الشِّعريّة تضعنا أمام شاعر أطلقَ العنان لمخيّلته في أرقى حالات تجلّياته الشِّعريّة، غير آبه لأيّة مفارقات، مركِّزاً على تدفُّقه الشِّعري بعفويَّته المعهودة، مجسِّداً بذلك خصوبة الخيال المتناثر على مساحات الرُّؤى الرَّغائبيّة المتطايرة من أحلامه البعيدة، والمنسوجة من ذاكرة شاعر، نذر نفسه للشعر والحياة والإنسان! ويبدو واضحاً أنّ الشَّاعر متأثِّر بالفضاءات الدِّينيّة من خلال بناء نصّ القصيدة، حيث نراه يركِّز على الزَّيت المقدّس، ماء زمزم، هيكل، لغة الطُّقوس، كما ركّز على لغة الكتاب المقدّس والأماكن المقدَّسة، كأورشليم/ القدس، كفرناحوم، سادوم وعامورة، كربلاء والنَّجف.. حيث يقول: "يا صاحب الزَّمان .. في رحلة القدس، تلمع حوافي البرق بأنوار الزَّيت المقدّس″ ..

".. وأورشليم تبتلع أسرار مدينة الموصل."... ".. وعلى ناصية لمذابح الرَّبّ يقرأ علينا تعويذة عن السِّنين .. نسمعه يرتّل بالسّريانيّة ذات الجّرس المبجّل الجَّميل" ..

"تريد أن تحمل على قماشة بيضاء كلمات تعازيك إلى كربلاء".

كلّ هذا يدلّ على اعتماد الشَّاعر على الفضاءات الرُّوحيّة الرَّحبة، والقصيدة بمجملها هي حالة من حالات تجلّيات الشَّاعر الصُّوفيّة الرُّوحانيّة، ويبدو وكأنّ القصيدة مفتوحة على شواطئ المحبّة والحياة الشَّفيفة والمتناغمة بين البشر. إنّها ترنيمة بهيجة من ترنيمات الشَّاعر المنبثقة من تلألؤات قبّة الرُّوح!

ثمَّ يصدر ديوانه الثَّالث: طبعة ثانية للتَّاريخ، وللوهلة الأولى يلاحظ القارئ بغرابة العنوان، فعندما وقع هذا الدِّيوان تحت يدي توقَّعتُ أنَّ للشاعر اهتمامات بالتَّاريخ، لهذا ظننتُ أنّه ربّما يتناول مسائل تاريخيّة عبر هذا الكتاب، لأنّ على غلاف الكتاب لا يوجد ما يشير إلى أنّه شعر، فقط العنوان ثمَّ الأب يوسف سعيد.

وعندما فتحتُ الكتاب، وجدتُ الكتاب يتصدَّر مقاطع شعريّة شفافة بعنوان: إيماءات، مقطّعة إلى مقاطع شعريّة، اندهشتُ متمتماً، إذاً طبعة ثانية للتاريخ هو ديوان شعر وليس دراسة أو بحث عن التَّاريخ، وهكذا من العنوان والمدخل يفاجئكَ الشَّاعر، وقبل أن أدخل في جوِّ الدِّيوان أريد أن أشير إلى أنَّ الأب يوسف سعيد كانَ فعلاً من المهتمِّين بالتّاريخ، لمعرفته الحصيفة، وإهتماماته وإطلاعه الواسع في هذا الحقل، لهذا فإنّ ورود اسم الدِّيوان في هذا السِّياق كان نتيجة اهتمامات الشَّاعر وشغفه الكبير في حيثيّات التَّاريخ.

ولو عدنا إلى مدخل القصائد، نقرأ "إيماءات"، الَّتي إنطلق منها الشَّاعر حيث يقول:

"انعطافات نهريّة داخل أزمنة مهرولة فوق جسر الذُّهول.

صبّير يفتح درباً في صدرِ الفضاء ليحلب أثداء متدلّية.

جلد معبّأ باسفنجة بحريّة" ..

هكذا يبدأ الأب الشَّاعر إيماءاته، حيث نراه من الجملة الأولى يحلّق بفضاءاتٍ لا يمكن الإمساك بها، تقوده مخيّلته الجامحة، .. ما هذه الإنعطافات النَّهريّة داخل أزمنة مهرولة، تسير فوق جسر الذُّهول؟

هنا لبّ الفكرة الّتي تضع الإصبع على الجِّرح، وهي أزمنة مهرولة تسير على بطونها، وهل هناكَ أزمنة مهرولة أكثر ممَّا نراها الآن، علماً أن الأب الشَّاعر كتبَ نصّه هذا منذ ربع قرن من الزَّمان، وكأنّه كان يقرأ هرولة الأزمنة، وإندلاقها فوق جسر الذُّهول؟!

ثمَّ يتأوَّه قائلاً:

"آهٍ .. أأجرؤ أن أقولَ

الفرحُ يزهرُ في جدران قصائدي؟ " ..

لغة التَّفاؤل واردة بقوّة في متون نصوص الأب الشَّاعر لأنّه ينظر إلى الحياة من منظور خيّر، راغباً أن يتحقّق الخير والفرح والسَّلام للإنسان أينما كان، حيث يقول:

"ثمّة إيماءات حارّة تصنع قفاز البهجة ... تعانق وجه تفَّاحة الأفق وتحتسي الحياة من وجنةِ الشَّمس″ ..

".. ضمائرٌ تتأرّجح على حبال المحبَّة وتفتحُ أكثر من شراع فوق رأس تنّين الخليج" ..

وهل يوجد أكثر ممَّا يوجد الآن من أشرعة فوقَ قممِ الخليج ورأس الخليج وأعماق الخليج! .. منذ أكثر من ربع قرن يتوقّع الشَّاعر أن تنفتح الأشرعة فوقَ رأس تنّين الخليج! وهل يقصد بتنّين الخليج المرصرص بالنّفط، الذَّهب الأسود أم يقصد قوى الخليج؟! ها نحن نرى تنانين الخليج تضع دنيانا على كفِّ عفريت! ومع كلِّ ما عصف بالشَّاعر من غربةٍ وانشراخٍ في مروج البلاد، نراه يترجم مشاعره الدَّافئة نحو العراق بتكثيفٍ رومانسيٍّ بديع، حيث يقول: " العراق في بؤبؤي أقحوانة" ..

إنّ مَنْ يدرس نصوص الأب الشَّاعر يجد جموحاً واضحاً في خياله:

".. يا رمشاً يحرِّكُ قطارات العالم في بواطني

ويسافر رابطاً قرن الشَّمس بأعضائه النَّاتئة." ..

يركِّز الشَّاعر بعمق على شفافية الرُّوح وتوقها إلى عوالم العقل وابتعادها عن شهوة الجَّسد، وهو بهذا يتألَّق عالياً بنـزوعه الصُّوفي النَّقي، مؤكِّداً على هذا النـُّزوع من خلال الكثير من القصائد.

وفي قصيدة رمل القمر الَّتي أهداها إلى الشَّاعر وديع سعادة يركِّزُ على أهمّية الكلمة ونكهتها الطيّبة أكثر من العسل، ناسجاً فكرة أن يترك الشَّاعر لأطفاله الكلمة الطيّبة أفضـل من أن يتركَ لهم قفائر العسل:

"عيناكَ حبّتان من رمل القمر،

ولعلَّها من قمح السَّنابل،

عيناكَ من فرط حبِّكَ،

تحوّلتا إلى كهفين

لا يستوعبان هسيس خفّاشة صغيرة،

وعندما تنهدم أسوار مدينة القريض،

تلتهم ما بعثرته الرِّياح من شجن.

تلقيها في قفيرة نحل، وترحل،

ثمَّ تعود مثقلاً بالهموم، تبحثُ عن روضة،

تخبِّئ فيها قفيرة جديدة وترحل،

ثمَّ تعود إلى كلّ القفائر

فلا تجد فيها عسلاً، ولا خبزاً، ولا طعاماً.

ولكنَّكَ سترحلُ من جديد،

بعدَ أن تتركَ للرفاق قصيدة،

يحملونها إلى أطفالكَ، ويقرؤون في سطورها الأخيرة:

(القفار كلَّها فارغة، فكلوا من طيِّبات الكلمة)

صبحاً، وظهراً، ومساءاً." ..

وهكذا يقفل الشَّاعر قصيدته، تاركاً القفار فارغة، معتمداً على رجحان الكلمة الطيّبة عن العسل.

وعلى غلاف ديوانه الرّابع: "الشُّموع ذات الاشتعال المتأخِّر"، نقرأ انطباع بعض الشُّعراء بكلمات موجزة مكثَّفة تعبِّر عن مدى ولوجهم إلى عوالم الأب يوسف سعيد في ديوانه المفعم بتجلِّيات الإبداع.

يقول وديع سعادة:

"يكتب كمن يصلّي لله والإنسان بلغة فيلسوف ميِّت من السُّكر، كأندريه بروتون، تحت نخلة عراقيَّة أو كسلفادور دالي يقيم قدَّاساً".

بينما محمد علي شمس الدَّين يقول:

"كأنّ المصهر الّذي تنصهر فيه أدوات هذا الشِّعر مركَّب من لغة وصورة ذهن في آخر تطوّراتها، ودونما المرور بأيَّة محطّة للغناء، أو الوجدان أو الحكاية أو الاشراق ... وهي عدّة الشَّاعر الشَّرقي على العموم".

وأمّا صباح خرّاط زوين فترى الأب يوسف سعيد:

"يستقر على الرَّابية، لا يهتم لالتصاقه بالقمّة أو بالله كما في الحالات السلبيّة الشِّعريّة القصوى، لا يطمح إلى الصُّعود كما لا يقع في تجربة النّزول".

في حين يوسف بزّي يرى أنَّ الأب يوسف سعيد:

"يتمتّع بطوباويّة حارّة تشبه الرَّسم المسربل من الفضاء حيث يتبيّن من قصائده شرود جامح نحو شروق الله والوطن من عبثيات الأشياء وانتظامها"!

ويقول جو الحاج:

"الأب يوسف سعيد يتلو عظّته شعراً ويحكي مع رعيته شعراً ويناجي ربّه شعراً، حتّى أنَّك لتراه ولا تراه يتنفَّسُ شعـراً في رعشات صافية".

كما أشاروا النقّاد والشعراء الآنفي الذّكر، أنَّ الأب يوسف سعيد له خصوصيّة شعريّة، وتدفُّقات شعريّة جانحة نحو عوالم روحيّة صوفيّة دينيّة راقية، حيث كلّ ما يصدر عنه يحمل أبهى ما في الشّعر، لأنّه لا ينطق إلا شعراً، وكلّ هذا تشكَّل في وجدانياته وتطلُّعاته وثقافته وتوغّله العميق في بناء القصيدة، وهو فعلاً صديق الشِّعر والشُّعراء، صديق الكلمة الصَّافية النَّقية، كأنّها توهُّجات حلمه الفسيح في أبهى تجلِّياته، يستمدُّ كلّ هذا الإبداع الشِّعري من تراكمات ثقافيّة أدبيّة روحيّة، فهو يسقي أغصان شعره من هذا الينبوع الصَّافي الَّذي ينعش كيانه الفريد، حيث يكتبُ بقلبٍ منشرح وكأنّه في رحلة فسيحة بين براري الرُّوح، ينثر حصاده فوق مآقي القصيدة، ولا يرى في ربوع الدُّنيا سوى رفرفات بوح القصيدة لهذا وصل إلى المرافئ البعيدة، محمَّلاً بأنقى ما في لغة البوح أصالةً، لغة مضمّخة بالماء الزُّلال، لغة مشرقة بحنين الشَّمس إلى بسمة الأطفال على مدى الإيام والشُّهور والسّنين!

نقتطف من أجواء هذا الدِّيوان، ومن قصيدة: الموصل، المقاطع الشِّعريّة التَّالية:

"فيها نار تتقمّص روحاً كبريتيّة،

فيها حضارة متباعدة، يلمع اسفينها الأخضر كحجرة ساقطة من نيزك صبائحها تتقمّص لون البنفسج، غاباتها تداعب حشرات لامعة

جدرانها تتنفّس رحيق الطَّحالب، أهدابها الورديّة تستقطر خلاصة رحيق الزَّعفران ..

الموصل اخصابٌ مبارك، طائرات ورقيّة ملوّنة، رغبة معلّقة فوق جسر العصور الموصل، النَّظرة اللامتناهية لمسيرة الأفلاك

جذور ملوّنة في غيمة الصّباح، تغتسل جسدها برغوة الرّبيع.".

كتب الشَّاعر هذه القصيدة من وحي مدينة الموصل، الَّتي قضى فيها طفولته وشبابه، وجسّد في عوالم القصيدة شوقه العميق إلى هذه المدينة، الَّتي زرعت في قلبّه حب الطَّبيعة والحياة والشّعر والكلمة المتجانسة في متون القصائد. تنمو قصائده من ذكريات محطّات العمر الّتي منحت يراعه دفء العطاء، فنراه يكرّر اسم المدينة على مدار القصيدة كلها، وفي كلِّ مرة يصيغ بهاءً شعريَّاً جديداً، متوغِّلاً في أعماق المدينة كأنّها صديقة ابنه البكر، أو صديقته المسترخية على أكتاف الرُّوح، وغافية عند ظلال القلب، فرحٌ من وهج المكان ينمو في آفاق الشَّاعر، ويحقِّق بهجة العطاء والإخلاص لمدينته الَّتي عانقته وعانقها بحميمية فتألَّقت القصيدة كأنّها صيغت من تدفُّقات الأحلام المنبعثة من رحاب الطُّفولة والشَّباب.

وفي ديوان "سفر الرُّؤية"، نحلِّقُ مع شاعرٍ مخضّبٍ بخيالٍ جامحٍ، من خلال توهُّجات تجلِّياته التي استوحاها من نشيد الأناشيد من سفر الرُّؤيا، حيث استوحى قصائد شعريّة عذبة فيها تدفُّقات شفيفة ومنعشة للروح، تغفو فوق نصاعة غيمة وتزدهي بالسموّ والصَّفاء كأنّها بخور الحياة، ينقلكَ الأب يوسف سعيد إلى عوالم عذراء بكر، وقد قسّم الدِّيوان إلى اثنين وعشرين فصلاً، كلّ فصل عبارة عن نصّ شعري متدفّق بالصُّور الفيَّاضة وتوق عميق إلى أسرارِ حبورِ الرُّوح!

يبيِّن لنا الشاعر في مستهلِّ ديوان سِفر الرُّؤية، كيفية ولادة هذا الدِّيوان، كلمة عابرة:

"هذا السِّفر هو السِّفر المقفول، والموصد والمغلق، وتأويلاته لا تعدّ ولا تحصى، وأرقامه تشبه زوبعة بحريَّة، وعندما تقرأ باقي الأسفار، كأنّكَ السَّالك في طريق صحراوي تعرفه أرباب القوافل، وإذا سلكتَ فيه، ما عليك إلا أن تنظر إلى العلا، فترى سماء زرقاء، وآفاقاً بعيدة. وإذا جاء اللَّيل، ففي سيرتكَ الطَّويلة، تكتشف نجوماً متحرّكة، متقاربة وأحياناً منفصلة، لها أنفاس تصدر عن جسدها. وكواكب خضراء ودروب التبّانة، كضربة فرشاة في وعاء المحبرة الكبيرة.

سفر يأخذك إلى عوالمه السَّحيقة، وتستشف أنظارك خيالات جميلة واشراقات رائعة.

بعض من درسه، أراد حذفه كلّياً من أسفار الفلك وبعضهم عطف على نصفه، وآخرون لم يجدوا فيه مبتغاهم. أمَّا أرقامه فمطلسمة، وأيّ اجتهاد لاهوتي في حلّها كمَن يـطرق علـى جدار مدينة لا بوّابات لها.

وحدهم الشُّعراء، أدركوا فيه قيمة هذا السِّفر، وعندما يقرأونه، يجدون فيه تحريضاً قويّاً لكتابة قصيدة جديدة أو كتابة مسرحيّة شيّقة.

ستجد في هذا السِّفر، رحلات لملائكة ولقاءات للقدِّيسين والأنبياء، وغضباً من السَّماء وخضوعاً من الأرض والإصغاء التَّام من حركاتها اللامرئيّة.

هذا السِّفر يثير فيك عاطفة نقيَّة أو يحرّضكَ على كتابة قصيدة جديدة. وتستطيع أن تحدِّد تاريخيّاً الفترة الَّتي دخلت من بوّاباته، لكنّكَ لا تعرف متى ستخرج منه، ومتى سوف تستدلُّ على البوّابة المؤدّية إلى خروجكَ من عوالمه".

ديوان سفر الرُّؤية ديوان معبّق بروح السُّموّ والتَّواصل مع بهجة السَّماء والحياة من خلال حالات روحانيَّة سمحاء، أدلق الشَّاعر محبَّة خضراء فوق بهاء القصائد!

يستلهم الشَّاعر من فضاءات سفر الرُّؤية نصّاً شعرياً، ينبع من عوالمه الموغلة في التَّجديد الشِّعري، وقد اعتمدَ على الاشراقات الأولى الَّتي اقتنصها من الهالات المقدَّسة، ثم تدفَّق في بناء صور شعريّة من خياله المعرَّش في استيلاد لغة صافية بكر، كأنَّها قطرات ندى نضحت من سِفر الحياة، حياة الشَّاعر، وحياة النَّاسكين والقدِّيسين والصُّوفيين الَّذين يستنبطون فرح السَّماء من نضارة وردة، ومن فضيلة غيمة كأنّها منبعثة من أسرار الكتب المقدَّسة، مسربلاً نصّه بهلالات بوح الرُّوح، وهي في أوج توقها لعناق ملائكة فراديس غافية بين مآقي السّماء، حيث جوقة المرنّمين يرنِّمون ترانيمهم لِمَن يبحثون عن نقاوةِ الحياة وعن ترنيمةِ الفرح الآتي! لم يترك الأب يوسف سعيد باباً يؤدِّي إلى حبق الإبداع الشِّعري إلا طرقه، فها هو يسترشد من حفاوة سفر الرُّؤية رؤية شعريّة خاصّة، حيث ينسج الشَّاعر رؤاه بطريقة شاعريّة، تكاد أن تلمس في عوالمها شفافية روح الأب المتدفِّقة بعذوبة بديعة، عابراً طلاسم ما جاء في "سِفر الرُّؤية"، كي يصيغ أريجاً ناضحاً من مغاليق "سِفر الرُّؤية" وهو بهذه الطَّريقة، يرينا ما لا نراه عندما نقرأ هكذا رؤية في سفرها الغائص في رموز لا يفكُّ طلاسمها إلا أولئك الَّذين يملكون روحاً شاعريّة شفيفة، ويتوغّلون في الأسرار العميقة لكلِّ الأسفار، والأب يوسف سعيد واحد من العابرين في هكذا أسفار، وعلى رأس القائمة سِفر الحياة! يكتب الأب يوسف سعيد قصيدته من تلاوين الحياة، من فلسفته النَّابعة من بياضِ الثَّلج، من بياض الحقيقة، من أسرارِ دكنة اللَّيل، من سطوع القمر، من أمواج البحار، من بسمة الأطفال، من هديل اليمام، من حنين الوردة إلى ندى الصَّباح، من أغاني الحصادين وهم يلملمون شموخ السَّنابل، سنابل المحبّة، سنابل الخير، سنابل العطاءِ المتناثر من مآقي الماء.

إنَّ الأب يوسف سعيد شاعرٌ ممهورٌ بعبقِ الحنطة، ينسج نصّه على إيقاع تغريد البلابل وهم يحطُّون فوق باقاتِ السَّنابل، يراعه مقطَّرٌ بأريجِ النّعناعِ البرِّي، حبره من رحيق النَّفل، لهذا يحلِّق شعره فوقَ مروج الرّوح، كأنَّه مستخلصٌ من نقاوةِ زرقةِ السَّماء، من أصفى ما في حبرِ الحياة!

وأصدر في عام 1999 ديواناً بعنوان: الأرض التُّراب السَّماء الماء، وأطلقت (دار نشر صبري يوسف) الَّتي أصدرت الدِّيوان عنوان: فضاءات الأب يوسف سعيد، بالاتِّفاق مع الأب الشَّاعر، ولقصّة اصدار هذا الدِّيوان قصَّة رائعة وفريدة من نوعها، حيث أنّه كان يتواصل معي الأب يوسف سعيد عندما كان يكتب هذه الفضاءات الرَّحبة، عبر الهاتف، وكان يقرأ ما يكتبه عن الأرض مثلاً، وكنت (أحتال) عليه احتيالاً إيجابيَّاً منعشاً، قائلاً له، أبونا بيّض ما كتبته وأرسله إليّ عبر رسالة بريديّة، وهكذا بدأت رحلة التَّواصل البريدي بيني وبين الأب يوسف سعيد، يكتب مقتطفات عن الأرض ثم يدقّها على آلته الكاتبة الالكترونيَّة، ثمَّ يرسل الأشعار إلي، وكنتُ بدوري أتّصل معه قائلاً أبونا، نقلتُ كلّ ما أرسلته إليّ إلى حاسوبي على برنامج "الوورد"، كي أصيغه صياغة اخراجيَّة نهائيَّة، وكلّ ما كتبته أصبح بعد الإخراج والتَّبويب بضعة صفحات فقط، فحبذا لو تتمم قصيدة الأرض ببضعة صفحات أخرى وهكذا خِضْتُ معه لعبة راقية تعتبر من ألذِّ وأمتع الألعاب الَّتي خضتها مع مبدعٍ في حياتي، وخلال أيام قلائل، كنتُ أتلقَّى منه هاتفاً وإذ به يقرأ شعراً حالما أردُّ عليه، يقرأ ويقرأ ثم يقول ما رأيك بهذه الإضافات حول قصيدة الأرض، رائع جدَّاً أبونا.

كنتُ أتمتّع بقراءاته وجموحاته وتحليقاته الرَّائعة، وكنتُ أحرّضه على كتابة المزيد، وأشعر كما ذكرت في مقدِّمة الكتاب أنّه أشبه ما يكون بنزيف شعري، يتدفَّق شعراً، وهكذا انتقل من قصيدة الأرض إلى قصيدة التُّراب، واتّبعت معه نفس الطَّريقة التَّحريضيَّة، فكلَّما كتب مقاطع عن التُّراب، يتَّصل بي ويتلو عليّ ما كتبه ثم يكتبها على الآلة الكاتبة ويرسلها إليّ، فأدوّن ما يردني منه، ثمَّ أردُّ عليه بهاتف قصير قائلاً، أبونا ما كتبته عن التُّراب ما هو سوى مدخل لعوالم القصيدة، اترك عوالمك تسبح أكثر فأكثر في عوالم التُّراب! فكان يعود ويتمم القصيدة ثمَّ أشرت إليه أنّه من الضّروري الوقوف عند السَّماء، فقال لي فعلاً فكرة رائعة، وبدأ يكتب قصيدته عن السَّماء، وبعد أن كتب ما كتبه عن السَّماء، قلت له ما رأيك لو تقفل هذه العوالم بالماء لأنّه محرِّك الكائنات كلَّ الكائنات فقال لي فكرة رائعة حقاً ثمَّ بدأت رحلته مع عوالم الماء!كان يدهشني أيّما إدهاش في كيفية بناء نصّه، لا أظن أنَّ هناك شاعراً في العربية من جيله أو بعده بأجيال، لديه هذه الطَّاقة الشِّعريّة في جموح القصيدة، تدفُّق غريب ومنعش وعميق. يحمل عبق الشِّعر دون أيَّة تزويقات، يعتمد على خياله المتلألئ بحبق الشِّعر الأصيل وكأنّه خُلِقَ فقط لكتابة توهُّجاته الشِّعريَّة، وعندما استكمل فضاءات القصائد، ذات العناصر الأساسيّة في الحياة، بدأتُ أصيغ وأبوّب وأصطفي القصائد بطريقة تناسب أجواء الدِّيوان، وكنتُ أودُّ أن يقدِّمه أدونيس بمقدِّمة من وحي عوالم نصِّه البديع، لأنَّ أدونيس على صلة طيّبة مع الأب يوسف سعيد، لكنّي لم أتمكّن من الحصول على عنوان أدونيس من جهة، وانشغلتُ في إعداد الدِّيوان وإخراجه من جهة أخرى، واستهواني أن أتوقّف مليّاً عند عوالم تدفُّقاته، وبدأت أتغلغل رويداً رويداً في حيوية النَّص الَّذي كنتُ أشتغل على تبويبه ومراجعته واخراجه، فما وجدت نفسي في ليلة من ليالي كانون الأول الممطرة، إلا وأنا أفتح حاسوبي على برنامج الوورد، بعد رحلة فسيحة مع فضاءاته العذبة، أكتب الاستهلال التَّالي، والَّذي أصبح مقدِّمةً للكتاب، وعندما قرأتُ له الاستهلال عبر الهاتف، قال لي أبونا، انشر هذا الاستهلال لأنّه يناسب عوالم الدِّيوان. "فضاءات الأب يوسف سعيد، فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون، لغة من لون الشَّفق الصَّباحيّ، من لون العسل البرّي، من لون الماء الزُّلال! .. من لون أرض خصبة، خصوبة الحياة، من لون تربة "بازبداي"، يحمل بين ثناياه بذور المحبّة، لينثر ذرَّاته على وجه الدُّنيا لعلَّ هذه الذّرَّات تعطي خيراً وفيراً للبشر، كلَّ البشر!

الأب يوسف سعيد حالة شعريّة متفرّدة للغاية، هو نزيف شعري متدفِّق في كلِّ حين! ..لا أظن أنّه ينتمي إلى (جيلٍ ما)، إنَّه جيل .. يتناسب أن نقول عنه (من كلِّ الأجيال!) ..

صنّفه بعض النُّقاد من جيل السِّتينيَّات، لكن هل توقّف الشَّاعر عند جيل السِّتينيَّات، أم تغلغل إلى كلِّ الأجيال الَّتي جاءت بعده؟! .. وهل هذا التَّغلغل تطاول على أجيال غيره، أم أنَّه انصهار تامّ في ديمومة تجديد الشِّعر عبر كافّة منعطفات الأجيال المرافقة لمحطّات عمره؟! كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟

الحياة عنده كتابة، والكتابة هي حياة متجدِّدة عبر غليان شعري، ومن خلال تراكم هذه الغليانات، توصّل الشَّاعر إلى حالة ولا كلَّ الحالات، إنّها نزيف شعري دائم، يتدفّق شعراً كنزيف!

الزَّمان والمكان عنده ليسا مهمَّين، يكتب في أيِّ زمان وأيِّ مكان! وعندما يكتب قصيدة ما، لا تنتهي عنده، تبقى القصيدة مفتوحة، لأنَّ النَّزيف الشِّعري عنده مفتوح على فضاء الكون! .. ولا يشعر بالموجودات الَّتي حوله أثناء الكتابة، يتقمّصه الشِّعر فيكتب ويكتب ولا يتعب من الكتابة، كأنّه في ريعان شبابه! .. وعندما يقرأ لكَ نصّاً ما كتبه، تجده يضيف جملاً شعريّة عديدة غير مكتوبة، فتسأله: (...)، يضحك ويقول، هذه الإضافات لم أتمكَّن من الإمساكِ بها أثناء ولادة القصيدة، لأنَّها كانت تتزاحم على مخيَّلتي بشكلٍ هائج، فتنحّت (هذه الإضافات)، مختبئةً في ثنايا الذَّاكرة الشِّعريَّة النَّازفة! الآن جاء دورها لأقطفها وأضعها في سياقها المناسب.

ولكن هل تستطيع الإمساك بما يفلت منك من الجمل الشِّعريَّة المتدفّقة؟

لا، لا أستطيع أن أمسك بكلِّ ما يفلت منّي، آخذ نصيبي وأترك الآخر يداعب ثنايا المخيِّلة، إلى أن تحينَ فرص أخرى. عندما يزورك الأب يوسف سعيد، ضَعْ في الحســــــبان، أن يتوفَّرَ في أركان منزلكَ أوراقاً وكتباً وأقلاماً! إنَّه جاهز في كلِّ لحــــــظة للكتابة، وإليك يا أيُّها القارئ العزيز مثالاً عن كيفية إقتناصه الوقت من خاصرة الزَّمن.

فيما كنتُ أعدُّ فنجانين من القهوة، لا أخفي عليكم تأخَّرت دقائق معدودة.

القهوة جاهزة (أبونا!)..

ضحك ضحكته المعهودة الرَّائعة، ثم قال، تعال وأسمع كي يبقى للقهوة مذاقٌ آخر! ثم تلا عليَّ قصيدة، ابتسمَ وبدعابةٍ قال، أما كنتَ تستطيع أن تتاخَّر دقيقتين أخريين في إعداد القهوة؟ ..

فقلت لماذا؟ ..

أجابني، كنتُ سأكمل القصيدة!

يكتب عن أيِّ موضوع، وما يكتبه يكتبه بعمق، الحياة عنده برمَّتها مواضيع لكتابة الشِّعر، يكتب (القصّة، المسرح، والدِّراسات التَّحليليَّة) لكنّه نادراً ما ينتهي من كتابة القصّة أو المسرحيَّة الَّتي يكتبها! لأنَّه سرعان ما يعود ليغوص في عالم الشِّعر الممتدّ على مساحات روحه، فيترك هذه المتفرِّقات جانباً ويسبح في بحار الشِّعر، يروي غليله، لعلّه يعود لاحقاً إلى القصّة أو الدِّراسة الَّتي بدأ بكتابتها.

الأرض، قصيدة من قصائد الأب يوسف سعيد، تعبِّر عن الحالة الحميميَّة بينه وبين الأرض .. يتواصل مع الأرض تواصلاً عميقاً، فينبش بقلمه بطون الأرض مغترفاً الخيرات المكتنزة في أحضانها، ليقدِّمها للإنسان عبر الكلمة.

التُّراب، قصيدة مفتوحة على فضاء الرُّوح! .. الجملة الشِّعريَّة عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنَّها جُمَل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأشجار!.. عندما تناقشه في خيط القصيدة وما شابه ذلك، يجيبكَ أيَّة خيوط تتكلَّم عنها؟! فتسأله، طيِّب على أيِّ أساس كنتَ تكتب القصيدة؟

يجيبكَ ببساطة، لا يوجد عندي أيّ أساس وأيَّة خيوط، القضيَّة أعمق ممَّا تظنُّ، لأنَّ الشِّعر عندي هو أشبه ما يكون بنزيف متدفِّق! .. أكتبه بعيداً عن الخيوط والأساليب التَّقليديَّة لكتابة الشِّعر، أكتبه كما أحسّ، عفواً! .. (لا أحسُّ) أثناء الحالة الإبداعيّة، أشعر وكأنّي (مُختَطَف) نحو الأعالي، نحو فضاء فسيح، أكتب وكأنّي غائب عن الوعي أو في قمَّة وعيي! .. وأحياناً عندما أكتب نصَّاً شعريَّاً، أجدني أتغلغل في نصٍّ آخر غير الّذي كنتُ (أنوي) كتابته .. وكم من المرّات، أكتب قصائد غير الَّتي كنتُ أنوي كتابتها لحظة الكتابة، فالحالة الغليانيَّة هي الَّتي تحسم الومضات الإبداعيَّة المتدفّقة. السَّماء، قصيدة تحمل روح السُّموّ والارتقاء، يتوغَّل الشَّاعر في فضاءات الكون، راغباً أن يرتشفَ رحيق الوجود، ليقدّمه على طبق من ذهب للقارئ العزيز، ثم يفاجئكَ بقصيدة الماء! .. وأيُّ ماء هذا الّذي يكتب عنه؟ إنه ماءٌ زلال! .. يغوص الشَّاعر في أعماق البحار، غير آبه بخطورة الغوص، كلّ ذلك من أجل أن يقدِّمَ لكَ دُرَرَاً لا تعثر عليها في قاع المحيطات، إنَّها دُرَرٌ من نوعٍ خاص، إنّها دُرَر الشَّاعر الشَّفَّـــــــــاف الأب يوسف سعيد!" ..