ربيع قاسم وعراقنا الذي كان، وعراقنا الذي سيكون

بدء بواسطة صائب خليل, مايو 22, 2011, 10:08:55 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

ربيع قاسم وعراقنا الذي كان، وعراقنا الذي سيكون


في منتصف سبيعنات القرن الماضي ، تعرفت على ربيع قاسم، ضمن باقة رائعة من طلاب جامعة الموصل في ذلك العراق الذي كان. ورغم ان الجو السياسي كان شديد التوتر وكان التوحش البعثي يخفي الأصدقاء الواحد تلو الآخر، فلم يكن صدام قد تقلد رئاسة البلاد وأنعم بحروبه وأخلاقه عليها، ولم تكن والشخصية العراقية  قد دفعت الثمن بعد.
ربيع معروف على مستوى البلد كأحد لاعبي الشطرنج المعروفين والمحبوبين، أما على مستوى أصدقائه، فكان بتواضعه الجلي وضحكته الطفولية وعيناه البريئتان القلقتان في نفس الوقت، ذو موقع خاص في نفوسهم، لا يسهل تفسيره. لا تستطيع أن تكون مرتاحاً، إن كان ربيع غير سعيد بموقف (مبدئي) لك.

أخبرني ربيع قصة رسوبه في إحدى السنوات حينما تساءلت مستغرباً. قال لي أنه كان "إكمال" بدرس اللغة الإنكليزية في الثانوية، وكان يستعد لإمتحانات الدور الثاني بشكل إعتيادي، حين علم أن بعض أهله قد توسطوا مع المدرس لكي ينجحه في كل الأحوال، فما كان من ربيع إلا أن رفض أن يذهب للإمتحان، رغم أنه كان مستعداً له، فقد وجد أنها الطريقة الوحيدة التي تمنع وقوع الغش الذي أعد لصالحه. قال لي ربيع بعد ذلك إنه ربما يشعر اليوم ببعض الشك والمبالغة في ذلك القرار، لكنه أحس في ذلك الوقت أن تلك كانت الطريقة الوحيدة لإقناع ضميره.

في إحدى بطولات العراق للشطرنج في ذلك الوقت، بقي لربيع مباراة واحدة، مع أحد أقوى لاعبين في العراق، وكان يكفي هذا اللاعب أن يحصل على التعادل ليفوز ببطولة العراق، أما ربيع فكانت نتائجه سلبية ولم تكن نتيجة المباراة تؤثر على مركزه الخاسر. عرف هذا اللاعب، الذي احتفظ باسمه كرامة، بهذه التفاصيل طبعاً، لكنه لم يكن يعرف ربيع جيداً، فتورط معه.
جاء إلى ربيع وعرض عليه بصراحة مبلغاً من المال، مقابل إن وعده أن يقبل الإتفاق على التعادل مسبقاً، فكان جواب ربيع بعد ان استوعب الصدمة المهينة، بالحرف الواحد: "أعدك أني سأعمل على الفوز في هذا الدست بكل ما استطيع!"
وماجت الخيل والرخاخ والبيادق، وحصل اللاعب الآخر على بعض التفوق، وكان يلعب بالأبيض، وبالفعل عرض التعادل فرفض ربيع واستمر باللعب. أخبرنا ربيع فيما بعد، أنه لولا العرض الدنيء، فأنه كان سيوافق على التعادل في مثل ذلك الموقف بدون أي شك.

اللاعب الذي كان يتوقف مصيره على نتيجة المباراة ، والذي كان المرحوم الدكتور وضاح عبد الرزاق إن لم أكن مخطئاً، كان بلا شك يتابع المباراة بقلق شديد، فقد كانت في الحقيقة مباراته على لقب بطولة العراق، يلعبها شخص آخر مكانه!
استمر اللعب ودارت الدوائر، وانقلب الموقف لصالح ربيع، وانتهى الدست الطويل المرهق بفوزه، وخسارة اللاعب الآخر للقب البطولة التي لم يستطع تحقيق حلمه أبداً بالحصول عليها حسب علمي! ولا شك عندي أن فرحة الدكتور وضاح كانت عارمة، وكذلك كانت فرحة ربيع بإنجازه ما وعد نفسه به : توجيه ضربة لدنائة الأخلاق التي تجرأت على التحرش به.

ما الذي يدفع المرء إلى رفض الرشوة واللعب بحماس أشد ضدها، مما يلعب حتى لنفسه، ويدفعه إلى خسارة عام دراسي كامل ، وبإرادته وقراره، لسبب لم يكن له يد فيه، ولم يكن إقناع ضميره به عسيراً؟ نعم هي التربية، ولكن أيضاً هو الإعتزاز بالنفس التي تأبى الدنيء، والثقة بها إلى أنها ستتحمل ضريبة الحقيقة. ما ينقصنا اليوم مثل هذا الإعتزاز بالنفس وتلك الثقة بقدرتها على مواجهة الحقيقة بلا تمويه وترقيع، وأن تخرج منها سليمة معافاة وقوية.

لاعبنا الشطرنجي ربيع قاسم احتفل قبل أيام بعيد ميلاده الـ (؟) وخطر ببالي أن اكتب خاطره صغيرة هدية له، فكانت هذه. لم يكن القصد ان تنشر هذه الخاطرة، لكني شعرت أن من حق العراقيين أن يعرفوا قصة ربيع الصغيرة هذه، وأن يعلموا أن هناك الكثير مما يُفخر به من إنسان بلادهم ، وأن سيل الإيميلات المحبطة لا ينقل كل الحقيقة. أهدي باسمي وباسمكم، هذه المقالة الصغيرة إلى ربيع بما يمثل بالنسبة لنا. لكني أعود فأتساءل الآن من الذي يهدي لمن؟ هل أنا حين اكتب، وقراءي حين يقرأون ، نقدم شيئاً لربيع أم أنه يقدم لنا بمثاله الرائع، مصباحاً في الظلام؟ هل عندما نكرّم الأخلاق الجميلة، نعيد لها بعض جميلها، أم أننا نستزيد من هذا الجميل بما توحي لنا به وما تعطينا من أمل؟ إن الأخلاق الكريمة إن شكرتها زادتك عطاءاً، وإن غنيت لها اغتنيت بها*.

حكايا ربيع هذه، ربما تشبه قصص الأخلاق الخرافية التي قد يحكيها الآباء لإبنائهم اليوم، (وقد لا يفعلون، خوفاً من ان يضحكوا عليهم، أو ربما رفقاً بهم). اليوم يسود شيء آخر، يسود الإنسان الذي يتسابق إلى خداع نفسه، ويجهد في البحث عن الحجج لإقناعها بما هو مشين، ويشجع كل الآخر أن يفعل ذلك "بهمة" و "براغماتية" و "جرأة" ، ولا يكاد يفشل في ذلك أبداً. إنسان اليوم يشجع على أن يخوض حرباً مع عقله وضميره، وأن يفخر بخداع الأول وبالقضاء على الثاني. أخلاق أنشأها أمس "القائد الضرورة" ويتعكز عليها اليوم دعاة اليأس من المجتمع العراقي، وضرورة بقاء عساكر "الإحتلال الضرورة".

مما لا شك فيه أن ربيع كان متميز الأخلاق حتى في ذلك الحين، لكنه لم يكن غريباً ناشزاً على ذلك العراق الذي كان، فلا تنبت نبتة في أرض ما لم تكن وراءها شجرة من مثل صنفها، وتلك من شجرة اخرى وهكذا. هذه الأشجار التي انبتت ربيع الذي عرفته أنا، وأمثاله الذين يعرف كل منا بلا شك، واحداً أو أكثر منها، انبتت حتماً العديد من غيرهم ممن لم يتح لنا أن نعرفهم، لكننا نعرف أنهم هناك في مكان ما، في انتظار الفرصة المناسبة ليزهروا العراق ويزهروا به.

ربما يكون مثال ربيع مثالاً محبطاً، لبعده عن المنال. لكننا لسنا بحاجة أن نصل جميعاً إلى مثل هذا العلو، فيكفي أن نرى أمثاله، أمثلة تجبرنا أن لا نكون في الإنخفاض المعاكس له، لينجو البلد. العراق كان، ولا بد أنه ما يزال، غنياً بهذه النبتات الرائعة، وفي تذكّرها و تأمّلها والإقتراب منها وأن "نغار" من اعتزازها بنفسها وثقتها بها، ربما يكمن الأمل لإنقاذ هذا البلد مما هو فيه، ومما يراد له.