ضبابية الرؤية
كان شعار معاداة الامبريالية والاستعمار في بداية القرن الماضي من اهم الشعارات الذي كان يجذب الألآف من الشباب نحو الحركات اليسارية التي كانت تجيد صياغة هذا الشعار حينذاك . كان شعارا وطنيا لا ريب فيه .
كانت القوى الرجعية ، بما فيها بعض القوى القومية ، غير مهتمة بذلك الشعار ، كان جل تركيزها على الداخل ، كيف تحارب وكيف تقصي وكيف تشوه سمعة اليسار وبالتالي كيف تقضي عليه . تم لها ما ارادت بعمل دؤوب مستميت ، وبمؤازرة دول عربية ( منها ما توصف بالوطنية ) وبمباركة الغرب قاطبة .
مع تقدم الزمن تغير الحراك السياسي في العالم عموما وفي البلدان العربية خاصة . من كان يصدق ، لسنتين خلت ، ان السعودية ستحارب اخوان المسلمين ؟ من كان يصدق ان امريكا والغرب سيحاربون حلفاء الأمس وتصبح العداوة بينهم على هذا النحو ؟
اختطفت الرجعية شعار اليسار العتيد " محاربة الامبريالية والاستعمار " كي يصبح شعارها الذهبي في تجنيد الملايين من الناس التي غدت مؤخرا شبه اميه . وبغية جذب الجماهير ( الطائفية ) هذه ، طوّرت القوى الدينية ببراعة هذا الشعار ليصبح " معاداة الغرب الكافر " .
هؤلاء الاسلاميون على درجة عالية من التكتيك والتنظيم ، في الغرب يرفعون شعار " فريدم " ( اي الحرية ) لانهم يعرفون ان المواطن الغربي يتعاطف مع هذا الشعار . الاسلاميون الذين يزعقون بـ " تكبير " بعد كل عملية " نحر كافر" ، هم انفسهم من طلب من الجالية المسلمة في ايطاليا التصويت لصالح الحزب الشيوعي الايطالي !!! في انتخابات سابقة كي لا يفوز غريمهم الرئيس بيرسكلوني ، وفي الوقت نفسه فإن الحركات الاشتراكية واليسارية تساندهم الى حد ما في العديد من الامور . هؤلاء الاسلاميون ، رغم بؤس افكارهم ، بارعون جدا في الوصول الى مقاصدهم ، انهم يعرفون ماذا يريدون .
البعث الصدامي لم يجد امامه غير الشعار نفسه . في الحقيقة أنه لايملك شيئا آخرا كي يثبت " وطنية قائده" الذي مات شهيدا وهو يقارع الامبريالية !! . ثم اخذ ينسج حكايات سخّر لها كل اعلامه المضلل . ( ان ضرب العراق ( القائد ) مؤامرة صهيونية مبيته منذ السبي البابلي .. ان الغرض من الغزو كان من اجل السيطرة على منابع النفط – لااعلم ان كانت امريكا قد سيطرت فعلا على شركات النفط ام ان بلدان اخرى لم تشارك في غزو العراق هي التي فازت بعقود النفط – على اية حال فان حصة كل عراقي من النفط لا زالت تصله غير منقوصة ) . استطاع البعث الصدامي بهذه الحكايات وغيرها ان يحكم قبضته على قاعدة الحزب قبل كل شيء بعد ان وجدت نفسها متورطة اصلا مع افعال هذا الحزب ، واستطاع ايضا ان يحشد الجماهير السنية ( بما فيها الحركات الاسلامية )، ومنح لنفسه اسما ( حزب العودة ) .
اني اركز على هذا الشعار لخطورته علينا في الوقت الحاضر ، الملايين تركض خلف الشعار من اجل دحر " الغرب الكافر" . والجماهير هذه هي نفسها التي تسعى الى الاجهاز علينا . وراء هذا الشعار اصطف الصداميون مع القاعديون مع الداعشيون ، يساندهم في الشعار نفسه خصومهم الايرانيون .
وعندما تشكي حالك وتعبّر عما يصيب اهلك ينبري لك " علمانيا " ليقول لك : اسأل "امريكتك المسيحية " !!!! . للأسف الشديد هناك مسيحيون ايضا ينسبون ما يحدث للأقليات هنا الى مؤامرات الغرب ضدهم ، يفعل الواحد منهم ذلك بفعل الاحباط دون ان يعي انه يبرأ القتلة الحقيقيين من الفعل .
هل تعتقد اننا نكتب هنا لانفسنا ؟ . كما في هذا الموقع من يجوب مواقع اخرى لينتقي المواضيع التي تعجبه ليثقفنا بها ، كذلك الحال مع الغرباء الذين يتصفحون موقعنا ، ينقلون كلامنا هذا وهم يضحكون " اقتلوهم فانهم يعتقدون ان - غربهم - يقتلهم " . لا استغرب ايضا ان فعل ذلك مسيحي آخر من اجل ا حزبه فقط ، غير مبالي بشيء آخر .
لنسمع ما يقولونه في جوامعهم ، ومن على مكبرات الصوت يرددون دائما " اليهود والصليبيون " . المفروض في المؤذن ان يقرأ ما في قرآنه ، وفي القرآن لا وجود لكلمة " صليبيون " . فما المعنى اذا ؟ ، اليس هو تجييش طائفي ديني ، خاصة لدى عامة الناس ، ضد المسيحيين ؟.
انهم يرددون ذلك لمدة تزيد عن ربع قرن ، منذ ايام القائد المؤمن .
اما اليسار الذي اضاع قاربه " المجذاف والملاح " ( وعذرا للراحلة ام كلثوم ) ، اكتشفنا انه قد اضاع بوصلته ايضا . يبدو انه لم يسمع بعد بأن الأحداث قد تغيرت ولم تعد كما كانت منذ النصف الاول من القرن الماضي ، انه لا يعلم ان شعاره الجميل تم اختطافه من عصابات لاغراض بشعة ، انه لا يعلم ان هذا الشعار اصبح مغناطيسا ليس للجذب نحو اليسار بل للجذب نحو اقصى اليمين الذي يتربص بنا .
عوضا ان يستريح قليلا ليعيد تنظيم نفسه ، يجلس قليلا ليرتب اولياته وليمتع نظره ، ولأول مرة ، وهو يستمتع بدفء " نارهم تأكل حطبهم " بين امريكا وحلفاء الامس ، اندفع رافعا شعاره القديم ويسير ( كالعادة ) خلف احزاب يمينية . هو لا يريد ان يفهم بأنه يخدم اعدائه ( واعداء الاقليات خاصة ) . اندفع يساند اخوانه المجاهدين هذه المرة !! . جلس متخشبا على شعاراته وعلى ارائه وكأنه لا يستوعب ما يدور حوله . كانت فرصة ذهبية للتركيز على الداخل لتوعية الناس عما جرى وما يجري حاليا داخل العراق عوض صرف انظارهم نحو " مؤامرات الخارج " كي يبرر في النهاية ما فعله " الداخل " الشرير.
اندفع يزرع اليأس والاحباط واللاجدوى في نفوس الناس ويمنح ، على نحو غير مباشر، البراءة لجلاديه .
أليس من الافضل ان تركز على الداخل ثم تربطه بأخطاء الرأسمالية ان كان ذلك ما يروق لك ؟ .
هل نترك انسانا يحترق امامنا ونشغل انفسنا بالسؤال عن من كان المسبب ؟
لست متأكدا ان كان ما يتعلمه اليسار هو : " الى اليمين در " او " الى الوراء سر "
لكني متأكد من انه يجيد " في مكانك راوح " .