ميترو، بولو، دودو..عبادة الباريسيين المقدسة / د. تارا ابراهيم- باريس

بدء بواسطة matoka, نوفمبر 08, 2012, 04:22:22 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

ميترو، بولو، دودو..عبادة الباريسيين المقدسة






د. تارا ابراهيم- باريس

برطلي . نت / خاص / بريد الموقع

وجوه مكتئبة بل ومتلبدة بالتجهم من الصباح الباكر..بكاء طفل وصراخه  في عربته الصغيرة يؤذي الاسماع أمام عجز والدته عن اسكاته، شاب ربطة عنقه مشدودة برداءة وغير متناسقة مع لون بذلته،  فتاة لم يتسنح لها الوقت في وضع احمر الشفاه وهي بصدد وضعه  بكل تركيز أمام مرآة صغيرة، فتى غارق في ألحان الموسيقى الصاخبة التي تنساب من جواله يزعج  بها من حوله، رجل نائم يكاد يقع من مقعده فيتشبث به بين الفينة وأخرى عندما يغفو.

أدق التفاصيل يمكن ملاحظتها بدون أدنى جهد يذكر في عربة قطارألانفاق أو الميترو ونحن في طريقنا الى العمل كجزء من حياتنا الروتينية في باريس، وكيف لنا أن نغفل عن أصغرالتفاصيل أذا كنا متكدسين بعضا فوق بعض كسرادين معلبة. الساعة الان تقترب من الثامنة صباحا والكل يتهافت على باب المترو من أجل الحصول على مكان صغير لقدميه كي لايتأخر عن موعد عمله. فالمترو أو قطارات الأنفاق هو من أهم وسائط النقل العامة الباريسية التي تربط شمال العاصمة بجنوبها وشرقها بغربها، و يصل عددها الى 14 خطا، حيث يمكن تخيل باريس كقطعة من الجبن فيها ثقوب عديدة تمثل الانفاق الكثيرة التي حفرت تحت  العاصمة الفرنسية من أجل تركيب سكك الحديد لسير القطار، فكل يوم يستقل أكثر من 5 ملايين باريسي الميترو من أجل التنقل بين أرجاء العاصمة، وارصفة انتظار الميترو تكتظ بالناس ما بين الساعة السابعة والتاسعة صباحا هو موعد خروج الناس الى العمل وما بين الخامسة والسابعة مساءا لحظة العودة الى المنزل. فالباريسيون هم رهائن الميترو وخصوصا عندما يضرب سائقون عن العمل لعدة أيام لحين تفاوض النقابات مع الحكومة لتلبية مطاليبهم، حينها تشل الحياة في العاصمة و تعد جحيما لايطاق للذين يستقلون الميترو كل يوم. (فالميترو) هي العبادة الاولى للباريسيين التي يزاولونها كل يوم بأخلاص وتفاني شديدين.

عودة الى سطح الارض من داخل الانفاق والوصول الى موقع العمل، فالباريسيون يتهافتون على فنجان القهوة الصباحي الذي لايستغنون عنه لبدأ يوم عمل شاق جديد يبدأ في التاسعة صباحا وينتهي في الخامسة مساءا هذا في الدوائر الحكومية أما في القطاع الخاص والشركات الاهلية ففترة العمل يمكن أن تستمر الى السادسة والسابعة مساءا، يذكر أن فرنسا مشهورة بال(35)) ساعة من العمل الأسبوعي، فكثيرا ما حاولت الحكومات المتعاقبة زيادة عدد ساعات العمل الا أن الفرنسيين باضراباتهم ومظاهراتهم لم يمنحوا  الحكومات فرصة الزيادة  في مايسمونه الميراث القومي. انطلاقا من هذا المبدأ فكلمة ( البولو) غير موجودة في القاموس الفرنسي، وانما هي كلمة تستخدم في اللغة العامية و تعني العمل، أو العبادة الثانية للباريسيين.

العوده الى المنزل بعد اعادة المشهد نفسه في الميترو لحظة الخروج من العمل، الساعة الان تقارب السابعة أو الثامنة مساءا، لم يتبقى الوقت الا لاعداد عشاء بسيط ورؤية الاطفال ومن ثم النوم أو ( الدودو)الذي يعتبر العبادة الثالثة للباريسيين كي يكرر الروتين نفسه في اليوم التالي مكتملا بذلك المثلث الذي ينحصر فيه حياة الباريسي بين ميترو وبولو ودودو.

تفاني الباريسيين في عبادتهم الثلاثية ينعكس في بعض الاحيان سلبيا على واقعهم الاجتماعي والنفسي، فكثيرا مايجد الباريسي نفسه سجينا في دائرة حياة مغلقة تصيبه بالكآبة والقلق المستمرمما يؤدي في النهاية الى عواقب أغلبها تراجيدية. فكثيرا من الاحيان وبعد يوم منهك من العمل ونحن بصدد انتظارالمترو، نسمع الاعلان التالي " أعلان: نعتذر عن تأخر المتروالتالي بسبب حالة انتحار، موعد القطار التالي غير معلوم "،  يبدو أن هنالك شخص رمى بنفسه على سكة الحديد في محاولة منه للانتحار، وهنا يزداد سخط الباريسيين الذين يتميزون بألفاظهم النابية بقولهم مثلا، " هذا الاحمق، ألم يجد وقتا آخر لينتحر  " أو"  ألم يجد هذا المغفل وسيلة أخرى للانتحار".  أما من الناحية الاجتماعية، فيقال أن الباريسي مخلص لعمله أكثر من أخلاصه لزوجته، فمن خلال الأحصاءات التي أجريت مؤخراً، أتضح أن نسبة الطلاق في فرنسا تقارب 50% من الزيجات أكثرها ومن دون شك في باريس نتيجة الضغط في العمل وعدم القدرة على الاستمرار في الحياة الزوجية لسبب أو لاخر، كالمنافسة الشديدة ما بين الزوجين أو ألتقاء أحد الزوجين بعشيق أو عشيقة في العمل أو لاسباب مهنية كنقل فرع الشركة الى مدينة أخرى..الخ.

وبقيت كلمة أخيرة ينبغي الاشارة اليها وهي أن ( ميترو، بولو، دودو) هي بيت شعرللشاعر ( بيير بيارن ) الذي كتب قصيدة تحمل عنوان ألوان المصنع، أثناء الاحداث التي رافقت أنتفاضة   1968، الانتفاضة الطلابية العمالية الفلاحية التي نهضت بالمجتمع الفرنسي وفتحت أمامه افاق جديدة  لمواكبة التمدن والتغلب على العادات والتقاليد  البالية التي كان يمارسها. (بيارن)نظم القصيدة لابناء المجتمع لحثهم القيام بالثورة ضد نمط الحياة من العبودية للعمل، ويذكر أن هذا البيت ينتهي بكلمة زيرو أوالصفر أي ( ميترو, بولو, دودو , زيرو ) كي يدل على القطار و العمل و النوم واللاشيء مشيرا الى عدم الحصول على أي شي في نهاية المطاف. 





Matty AL Mache