درس من شيوعيي سجن الحلة للمنتصرين للفساد

بدء بواسطة صائب خليل, أغسطس 03, 2011, 12:48:18 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل


قلنا أن فاسدي مفوضية فرج الحيدري وداعميهم لم يسجلوا انتصاراً في المعركة، فالفضيحة كانت ثمناً كافياً لتخريب أي انتصار مفترض، ولا شك أن جماهير هؤلاء الداعمين تنظر إليهم اليوم نظرة أخرى. أما فرج الحيدري فسيورث حتى أبناءه وأحفاده السمعة السيئة، وما لم يكونوا مثله فسوف يشعرون بالخجل من انتسابهم إلى فاسد مفضوح بهذا الشكل، ولن أفاجأ إن غير بعضهم إسمه.

هذا كله صحيح، لم ينتصر الفاسدون ، لكن لا بد أن نقر بأن "الفساد" نفسه سجل في هذه الموقعة نصراً واضحاً. فقد أسس هؤلاء المأسوف على موقفهم لمفهوم جديد هو أنه من المسموح به أن تدعم الخطأ والفساد، إن كنت تعتقد أن الحملة ضده "موجهة سياسياً" ، وأن خصمك هو من سيستفيد منه!

ذكرني هذا الموقف بموقف مناقض تماماً شهدته قبل زمن طويل، وطويل جداً إن قيس بأحداث العراق. كنا في زيارة لخالي المرحوم جميل منير، في سجن الحلة، وصادف أن كان نظام البكر قد أعلن تأميم النفط العراقي في تلك الأيام، وكان الشيوعيون قد اصدروا للتو بياناً يعلنون فيه تأييدهم لموقف الحكومة من تأميم النفط. إستشاط خالي الأكبر ياسين، غضباً وعنف أخاه: "كيف تؤيدوهم وهم يسجنونكم"؟
هذا ما بقي في ذاكرتي من كلمات النقاش، أما فحواه فكانت كما أذكر، جواب خالي جميل، بأن القضية قضية مبدأ، وأننا لا يمكن أن نقف ضد التأميم لأن من يقوم به هم خصومنا البعثيون، ولا يمكننا أيضاً أن نمتنع عن موقف مبدئي لمجرد أن خصومنا يستفيدون منه سياسياً.

طال الجدال بين خالي الكبير المتوتر حرصاً على سلامة أخيه وحقداً على المتسببين له وللكثيرين من رفاقه وأهلهم، بالكثير من الأذى، وخالي الآخر الذي يدرك دقة الموقف ويفهم في الوقت نفسه دوافع أخيه الأكبر الطيبة المفهومة.  كان يقول له ما معناه، "تصور أن الحزب رفض التأميم، أو حتى امتنع عن تأييده، ثم فشل التأميم، ماذا سيكون موقفنا أمام الناس غداً؟ الن يقولوا لماذا لم تساندوه وهو أحد أهدافكم بل أحلامكم ومن صميم مبادئكم؟ ماذا سنقول لأنفسنا لو تبين أن موقفنا السلبي إن اتخذناه ساهم في عودة الشركات إلى العراق وبقوة أكبر؟... الخ، حتى نجحت تلك الأسئلة في إقناع خالي الكبير، فقبل أخيه وهو يبكي.

ما نجح شيوعيو الأمس في إنجازه من الوقوف إلى جانب مبادئهم في ظرف صعب، فشلت الغالبية الساحقة من الكتل والبرلمانيين في القيام به، وهم طلقاء، في بلد ديمقراطي بدرجة ما، بل ومشاركون في الحكم. ما نجح فيه شيوعيو الأمس من دعم لمبدئهم وهم تحت السياط، ولديهم كل الحجج لمن يريد ان يتحجج، فشل فيه ممثلوا الشعب العراقي اليوم، وتحججوا بأوهى الحجج. نجح أؤلئك في نصرة مبدئهم حتى حين كان يعني انتصاراً للمقابل الذي كان جلادهم ، يكيل لهم العذاب كل يوم، بينما فشل المصوتون على إبقاء الثقة بالمفوضية رغم اعترافهم بفسادها، في الوقوف بصف مبدئهم، لمجرد أنهم رأوا أن منافسهم يستفيد منه. منافسهم، وليس جلادهم!

الحجة؟ أن ذلك المنافس "يستفيد منه سياسياً"! أليس هذا مخجل؟ أن يستفيد منافسك سياسياً من إزالة مؤسسة فاسدة خطيرة، وتستفيد أنت من بقاء الفساد؟ أي فساد في العالم، لابد أن يفيد جهة ويضر بجهة، فهل لا يتوقف البعض عند حقيقة كونهم مستفيدين من بقاء الفساد؟ وهل يحق للجهة المتضررة من إزالة الفساد أن تدافع عنه؟ وهل يكفي أن تكون تلك الإزالة مفيدة لجهة مقابلة لتبرير ذلك؟ وما العيب أن تستفيد جهة من إزالة فساد موجه ضدها، وهذا من حقها تماماً، بل من واجبها تجاه نفسها وناخبيها.

وتلك التهمة بأن الموضوع وراءه "نوايا "مسيسة"، ما هو الخطير في "المسيسة" لكي يبرر تحمل فساد أخطر مؤسسة في البلاد؟ وهل تعتمد مواقفنا المبدئية على تقديرنا بأن "نوايا" الآخر مسيسة؟
بعد الآن ، نعم! بل لا تحتاج حتى أن تكون مسيسة فعلاً لرفضها، فما جرى هو إتهام بالتسييس، دون إمكانية أو وجود الحاجة على ما يبدو للبرهان. فكل ما يحتاجه السياسي في العراق إن أقر بهذا المبدأ السيء، لكي يدعم اي فساد أو لصوصية تقتضي مصلحته أن يدعمها، أن يصرخ بأن القضية "مسيسة"!

ليست القضية إختراعاً جديداً، فقد مارسه كل اللصوص الكبار، من حازم الشعلان إلى مشعان الجبوري إلى كل وزير ومسؤول تم القبض عليه متلبساً، فصرخ أن "القضية مسيسة" . ليست القضية جديدة، لكن ما هو جديد فيها هو انتصارها الباهر هذه المرة، وسعة طيف الذين وقفوا خلفها وضد المبادئ التي يدعونها، أخلاقياً، ودينيا ووطنياً. لقد عبد هؤلاء الطريق للفاسد القادم ولداعميه. من سيستطيع أن يفتح فمه بعد الآن إن وقف "دولة القانون" غداً مع الفاسد القادم من أعضائه، ورفض التحقيق معه حتى بوجود الأدلة القاطعة التي لا ينكرها، مستعيناً بنفس حجة خصومه: أن "القضية مسيسة"؟

رسمت كاريكاتيراً يقول فيه الداعمون للحيدري له، بأنهم يقرون بأنه فاسد، لكنهم "يثقون" به. والحقيقة أني لم أكن بحاجة إلى إبداع أي شيء من عندي في هذا الكاريكاتير، فهو بالضبط معنى ما قاله هؤلاء للحيدري وللشعب العراقي، وصفقوا لأنفسهم فوق ذلك على "نجاحهم" في أن يدوسوا على ضميرهم والإمتناع عن الوقوف إلى جانب ما يدعون من مبادئ.

النقطة الخطيرة الأخرى في الأمر أن هذا المبدأ، وبفعل سعة النقاش الذي دار حوله، قد تسرب إلى ذهنية المواطن العراقي من خلال الإعلام، ولم يعد غريباً أن تدعم أية كتلة فاسديها لنفس السبب، وينتظر أن يقف ناخبوا هذه الكتلة وراء كتلتهم في دفاعها عن لصوصها، باعتبار أن الآخرين قد فعلوا ذلك. وحين سيعترض البعض، سيرتفع الناعقون بالمفهوم سيئ الصيت: "لا أخلاق في السياسة"، ويشيرون إلى تلك الحادثة كبرهان على صحة رأيهم.

لقد أتم المصوتون بالثقة، تثبيتاً لمبدأ خطر جديد في السياسة في هذا البلد، وأتمنى أن يدرك البعض منهم على الأقل، فداحة الخطأ الذي وقع فيه، والإعتراف به، وأن يبادر إلى محاولة تصحيحه. لا ادري كيف، لكنها مشكلته، ربما بدعم محاسبة النزاهة لموظفي المفوضية أو الدعوة إلى إجراءات جديدة بحقها واتخاذ مواقف تمسح الأذى المبدئي والسمعة السيئة التي لحقت به، أو إعلان انفصاله عن كتلته إن هي رفضت التراجع عن ذلك الموقف. عليه أن لا يترك الحادثة المخجلة تغور في التاريخ بشكلها الحالي. هذا بالنسبة للجميع، أما من كان منهم يخشى الله ويوم القيامة، فعليه أن يتذكر أيضاً أن دعم الفساد تحت أية حجة، مرفوض دينياً في مئات النصوص، وأنه بموقفه المؤسف، قد سن "...سنّة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".