الذكرى المشؤومة لانقلاب 8 شباط الفاشي 1963 / د. يوسف شيت

بدء بواسطة برطلي دوت نت, فبراير 13, 2018, 12:45:26 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

الذكرى المشؤومة لانقلاب 8 شباط الفاشي 1963   
أربعة عقود من فترتي حكم البعث /(1)
     
   


برطلي . نت / بريد الموقع

د. يوسف شيت

55  سنة مضت على الانقلاب الفاشي في العراق الذي نفّذ في 8 شباط 1963 الذي حمل القوى القومية المتطرفة ، وفي مقدّمتها حزب البعث , على قطار أمريكي إلى دست الحكم ، وكان هذا الانقلاب أفضل هديّة من هذه القوى حلم بها الرأسمال العالمي ، وخاصة شركات النفط الاحتكارية التي أرّقتها ثورة الرابع عشر من تمّوز 1958.  وكذلك مرور 15 عاما على احتلال في 2003 .
لم تكن الغاية من الانقلاب مجرّد التخلص من زعيم ثورة تمّوز عبد الكريم قاسم ،  بل الغاية الأساسية القضاء على أية إمكانية لقيام نظام ديمقراطي في العراق الذي مهدت له ثورة تمّوز المجيدة وتأثيراته المستقبلية على الأنظمة في المنطقة واختلال التوازن لصالح المعسكر الاشتراكي السابق. ومن أجل تنفيذ أهدافهم الدنيئة أطلق الانقلابيون العنان لحرسهم الفاشي ليستخدموا كل وسائل القتل والتعذيب والاغتصاب بحق القوى الوطنية الديمقراطية الداعمة للثورة من أحزاب ومنظمات مهنية ونقابات وشخصيّات ، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي ، وإعلان حرب إبادة على الشعب الكردي ، ليخلطوا دم الشعب العراقي بنفطه نزولا إلى رغبة أسيادهم في ما وراء الحدود مستخدمين بذلك خطابهم القومي المشئوم الذي لا يمتّ بصلة بالإنسانية والوطنية أو القضايا القومية .
لقد دمّر البعث وحلفائه كلّ ما أنجزته ثورة تمّوز خلال فترة خمس سنوات ،  ومنها :
- تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية الحقيقيين.
- دعم حركات التحرر الوطني العربية.
- إقامة علاقات أخوية متعددة الأوجه مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا),إلاّ أنّ أطماع جمال عبد الناصر في الاستحواذ على النفط والتمر (حينها كان العراق ينتج 75% من تمور العالم) وثروات العراق الأخرى جعلته يسلك سلوك المتآمر على ثورة تموز بالتعاون مع القوى السوداء الأخرى داخل وخارج العراق للحيلولة دون تنفيذ الثورة لأهدافها.
- الخروج من حلف بغداد العدواني وإبعاد شروره عن الشقيقة سوريا (الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة).
- تحرير النقد العراقي بخروجه من الكتلة الإسترلينية.
- إصدار عفو عام عن السجناء والمبعدين والهاربين السياسيين بدون تمييز , وإرجاع المفصولين الى وظائفهم,
- إصدار قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لعام  1958
- إصدار قانون الأحوال المدنية رقم 188 لعام  1959
- إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حرر بموجبه 99,5% من الأراضي العراقية الغير المستثمرة من قبضة شركات النفط الأجنبية.
- إعطاء حرية العمل السياسي والإعلامي وإجازة النقابات والجمعيات واتحادات الطلبة والشباب والنساء.
- التمهيد لكثير من فرص العمل ,خاصة للشباب, وبناء آلاف الدور السكنية , ومنها مدينة الثورة.
تفاءلت الجماهير العراقية بالانتقال إلى نظام برلماني منتخب بإرادة الشعب , وصدور دستور دائم يكفل إطلاق طاقاتها لبناء وتطوير حياتها الاقتصادية والثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية وتمتين أواصر المحبة والوئام بين القوميات العراقية وأديانهم وطوائفهم ليكون العراق مثالا تحتذي به شعوب المنطقة . أنّ الكثير من هذه المنجزات نفذّت خلال فترة قصيرة من عمر الثورة , وكانت حافزا لتفعيل وتطوير كافة أهداف الثورة التي رسمها البيان الأول والدستور المؤقت الصادر في 27 تموز 1958 للانتقال إلى نظام ديمقراطي برلماني وعدم تقاطعها , بل وانسجامها التام , مع أهداف جبهة الإتحاد الوطني , التي ضمّت الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال , ومع أهداف حركة الضباط الأحرار , ولهذا أبدت الجماهير تأييدها الواسع للثورة .
ولكن هل يمكن أن تسكت القوى التي أقصتها الثورة عن الحكم, المتمثلة بطبقة الإقطاعيين والكومبرادور والتي فقدت فردوسها ، وكذلك الديكتاتوريات الملكية الإقطاعية وغيرها من الأنظمة شبه الإقطاعية الإقليمية التي أرعبتها الثورة ، وشركات النفط التي أصبحت مصالحها مهددة في العراق، والدول الرأسمالية الكبيرة التي فقدت قاعدة سياسية واقتصادية وعسكرية مهمة في العراق؟
حاولت الدول الرأسمالية القضاء على الثورة عن طريق مهاجمة العراق بقوات حلف الأطلسي التي أنزلتها في لبنان والأردن بعد قيام الثورة مباشرة . إلاّ أنّ تلاحم الجماهير وقواها الوطنية من أقصى شمال العراق حتى جنوبه وتأييد الجيش بكافة قطعاته للثورة وإصدار أمر من القائد العام للقوات المسلحة بتشكيل المقاومة الشعبية التي انخرط فيها آلاف الشباب والشابات والتأييد من قبل الجمهورية العربية المتحدة وتدخل الإتحاد السوفييتي إلى جانب الثورة والاعتراف السريع للدولتين بحكومة الثورة ، أدّى كلّ هذا إلى إجهاض محاولة التدخل العسكري الانكلو- أميركي وانسحاب قوّاتهم من مواقعها . وبالطبع لم تيأس هذه الدول من القيام بمحاولات أخرى لإجهاض الثورة من الداخل وبدعم منها، وهي العارفة بأنّ قوى الردّة لن تستسلم بسرعة ، كما أنّ لها من يتناغم معها .
سرعان ما ظهرت الخلافات داخل قيادة الثورة منذ أيامها الأولى ، بين قائدها عبد الكريم قاسم ومساعده عبد السلام عارف الحامل للفكر القومي العربي الإسلامي ، والأخير ضمّه قاسم إلى قيادة الثورة بعدم معرفة وقبول الضباط الأحرار، وأخذ عارف يبشّر بالفكر القومي العربي أثناء طوفانه في محافظات (ألوية سابقا) العراق والدعوة إلى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة التي لمّ تكن من أهداف الثورة وجبهة الإتحاد الوطني وحركة الضباط الأحرار . وفكرة الوحدة العربية لم تكن مرفوضة لا من قاسم ولا من الأحزاب الوطنية التي رأت بأنّ قيام إتحاد فيدرالي هو أكثر ملائمة في الظرف السياسي الراهن الذي يعصف في المنطقة والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تعيشه دول المراد توحيدها. وجاءت فكرة "الإتحاد الفيدرالي" امتدادا لفكرة الإتحاد العربي الذي طرح قبل ثورة تمّوز من قبل الحزب الوطني الديمقراطي والشيوعي العراقي والاستقلال ، ولاقى هذا الشعار تأييدا واسعا من قبل الجماهير العراقية . لأن الوحدة العربية ليست مجرّد عملية دمج ميكانيكي كما صورتها القوى القومية العربية المتطرفة , بل هي عملية لها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تتوفر في البلدان التي تختار شعوبها مبدأ الوحدة . وقيام إتحّاد فيدرالي هو المدخل الآمن لتحقيق الوحدة العربية . وقد أثبتت التجارب الوحدوية فشل مشاريع الوحدة التي لم تبنى على إرادة الشعوب ، بل كانت رغبات قياداتها لحمايتها من أي حراك شعبي , كما حدث في السودان في تمّوز 1971 عندما أطاح الجيش بنظام نميري  الفاشي فقام السادات والقذّافي بإفشال المحاولة عن طريق التدخل العسكري، وحينها قال السادات: "إنّ للوحدة أنياب" (يقصد الوحدة الثلاثية بين مصر وليبيا والسودان).
لم يكن طرح شعار الوحدة الفورية من قبل عارف بدون سوابق . فبعد الثورة بعدة أيّام قدم ميشيل عفلق إلى العراق واجتمع مباشرة مع قيادة حزب البعث العراقي ، (كان سكرتير حزب البعث آنذاك وأحد مؤسسيه فؤاد الركابي) , وأمرهم عفلق , وبدون أية مقدّمات ، بتبني شعار "الوحدة الفورية", وإنّ طرحه هذا أثار الريبة والشّك، لذا لم يكن طرح الشعار مقبولا من قبل بعض قادة الحزب ، مما أثار غضب عفلق عليهم ووبّخهم على موقفهم اللّاعروبي . وإذا رجعنا قليلا إلى ظروف قيام الوحدة بين مصر وسوريا في شباط 1958 ، نرى بأنه لم تتوفر ، على الأقل ، ظروف اقتصادية وسياسية ، ووجود فوارق في التعدد القومي بين البلدين ، وهذا يعني ضرورة تقبل الشعبين للتنوع الاجتماعي لدى الآخر . وهذه تعتبر من العناصر الأساسية لقيام أية وحدة . ففي الوقت الذي ولجت سوريا طريق الديمقراطية ، حيث انبثق فيها برلمان منتخب وحرية النشر والتعدد الحزبي . كان في مصر نظام حزب واحد بقيادة عبد الناصر وبرلمان من لون واحد ومنعت بقية الأحزاب من مزاولة نشاطاتها بغض النظر عن توجهاتها الفكرية والسياسية . ومن الملاحظ ، خلال السنة التي سبقت الوحدة , كثف ميشيل عفلق من كتاباته ولقاءاته حول أهمية قيام الوحدة بين مصر وسوريا ، كما التقى عبد الناصر الذي لم يشاطره رأيه في البداية . كان عفلق يسخر من رأي عبد الناصر حين قال له : "كم من الوقت يحتاج الفلاّح المصري كي يتأقلم في سوريا وهو يعمل على غير أرضه" . ولكن، ما كان يؤرّق عبد الناصر هو حرية الأحزاب وحرية النشر في سوريا . إلاّ أنّ عفلق تعهد للعمل على منع التعدد الحزبي في سوريا ، بما فيها حظر نشاط حزب البعث والحدّ من حرية النشر. يأتي هذا النشاط المحموم لعفلق عندما برزت إمكانيات كبيرة في تطور النظام الديمقراطي في سوريا وإمكانية سريان إيجابياته إلى دول عربية أخرى، وأصبح يشكّل خطرا على الأنظمة الرجعية العميلة في المنطقة ، لذا سعت هذه الأنظمة ، وفي مقدمتها العراق ، وحلف بغداد بتهديد سوريا ، مما جعل القيادة السورية القبول في التوجّه نحو الوحدة الغير المدروسة مع مصر. وهكذا ساهم عفلق في دفع سوريا إلى أحضان قيادة جديدة لا معرفة لها بطبيعة المجتمع حتى انتهى الأمر بإقامة نظام دكتاتوري وانتهاجه أساليب فاشية لإدارة الحكم .
إستطاع عفلق خلق فجوة داخل جبهة الإتحاد الوطني العراقية وإبعاد حزب البعث عنها وتقويض أية إمكانية لتطوير أهدافها على أساس ظروف موضوعية جديدة وتوفر إمكانيات ذاتية أكثر فعالية ودعوة أحزاب ومنظمات جماهيرية للانضمام إليها وإبعاد العراق عن أية إمكانية للعودة إلى نظام مستبد . إلاّ أنّ حزب البعث ، ومعه بعض القوى القومية المتطرفة من مدنيين وعسكريين , مثل حركة القوميين العرب الناصريين والقوميين الإسلاميين ، سار بعكس التيّار واخططّ لنفسه سياسة التآمر لقلب نظام الحكم . ونشير هنا بأنه لم تكن هناك وثائق تثبت اتفاق بين عبد الناصر وعفلق حول شعار الوحدة الفورية ،إلاّ أنّ عبد الناصر لم يرفض الشعار ، لأنّ الوحدة العربية تحت قيادته كانت من أهمّ أهدافه ، وخاصة مع العراق ، لأنّ الثروة النفطية الهائلة ونخيل العراق ونهريه وخصوبة أرضه ومعادنه ستكون حافزا لتنشيط الاقتصاد المصري المتعثر، وهذا ما أسال لعاب حكّام مصر ، لذا انحاز عبد الناصر إلى المعسكر المعادي للثورة . ولكن من الواضح وبعد تطور الأحداث لاحقا ، بأنّ للدوائر الاستخباراتية الغربية علم بما يدور في أفكار عفلق وبعض قادة حزبه في العراق .
لم يعط حزب البعث أية أهمية لرفض أغلبية الشعب العراقي للوحدة الفورية ولا لتقبلها مشروع الإتحاد الفدرالي المطروح من قبل جبهة الإتحاد الوطني ، بل خطط لتشكيل جبهة معادية لثورة تمّوز والاستحواذ على السلطة عن طريق الانقلاب لتنفيذ عقيدة وأفكار عفلق حول الانقلاب الذي كان يدعو إليه في اجتماعاته وكتاباته ويرفض فكرة الثورة وتطويرها أو البرلمان المنتخب , ويقول : " وإنني أكرر ما قلته مراراً بأن الانقلاب هو محور حركتنا الذي يميزها عن سائر الحركات الأخرى, فالانقلاب الذي يدعو إليه البعث العربي لا يستطيع أن يدعو اليه أي حزب آخر."(1)
نشطت المخابرات الأمريكية والإنكليزية وسفارتهما في دول المنطقة والاتصالات مع الرئيس عبد الناصر لتوحيد جهودهم " القومية" والإطاحة بثورة تمّوز "الغريبة" . وفي الداخل توحدّت جهود البعث والقوميين الناصريين (أغلبهم من عناصر البرجوازية الصغيرة والمتوسطة) وجماعة الإسلام القومي تحت شعار "الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة" وانضمّ إليهم إخوان المسلمين المرتبطين بشكل مباشر مع النظام السعودي والتي ترأسها السيد محمود الصوّاف ، وبقايا الإقطاع والكومبرادور (فئة المتطفلين على المال العام) وشركات النفط الأجنبية العاملة في العراق . وانضوت هذه القوى تحت شعار " يا أعداء الشيوعية اتّحدوا " للإطاحة بثورة تمّوز، ولكلّ من هؤلاء أهدافه ومصالحه الذاتية لأنّهم خليط فئوي مختلفين سياسيا واجتماعيا وفكريا لا تهمهم مصلحة العراق ووحدة شعبه . لم يكن لهذه الجبهة المشبوهة أية حجة للوقوف ضدّ الثورة سوى اتهام قاسم والحزب الشيوعي والأحزاب الوطنية الأخرى والمنظمات الديمقراطية والمهنية بالوقوف ضدّ الوحدة العربية والقومية العربية وربط ذلك بالقضية الفلسطينية لإثارة العاطفة القومية للجماهير العربية وجرّها ضدّ ثورة تمّوز، والترويج لإدّعاءات كاذبة لا أساس لها بأن الحزب الشيوعي يتهيأ لاستلام السلطة . وفي هذه المناسبة أدلى الشهيد سلام عادل (حسين أحمد الرضي) السكرتير الأول للحزب الشيوعي العراقي بحديث إلى جريدة إتحاد الشعب يوم 30 آذار ، جاء فيه "كانت كل الأحزاب والقوى الوطنية مقتنعة ، قبل ثورة 14 تموز ، بأن " ليس باستطاعة أي حزب بمفرده أو أي جهة وطنية أن تأخذ على عاتقها مهمة تحرير البلاد وتحقيق الاستقلال الوطني . وغداة 14 تموز، عندما أصبحت الحلقة المركزية في النضال الوطني ، هي صيانة الجمهورية ، أعلن حزبنا بصراحة أن هذه المهمة هي الأخرى ، لا يمكن تحقيقها بجهود حزب معيّن أو قوّة معينة . وإن السبيل الوحيد لصيانة الجمهورية واستقلالها الوطني هو سبيل تضافر جهود كل الأحزاب والقوى الوطنية" . لم يستثن سلام عادل أية قوى وطنية أو قومية ,وخاصة أحزاب جبهة الإتحاد الوطني ، ومنها حزب البعث ، كما جاء التصريح في وقت هزيمة القوى المعادية للثورة بعد مؤامرة العقيد الشوّاف في مدينة الموصل التي شارك فيها البعث والتأييد الجماهيري الكبير للحزب الشيوعي والقوى الداعمة للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم . وبعكس هذه الدعوة أخذت القوى القومية والسائرون وراءها تطلق من جديد ،  دعاية الدوائر البريطانية المهيمنة آنذاك على العراق أبان النظام الملكي ، بأنّ الشيوعيين معادون للدين وكفرة... وغيرها من إشاعات المخابرات الأجنبية ،كما حصلت هذه القوى فتوى من السيّد عبد المحسن الحكيم عام 1960 مفادها : "الشيوعية كفر وإلحاد" .
هنا لابدّ وأن نلقي نظرة إلى موقف الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية ،  وبشكل خاص موقف الشيوعيين العراقيين، من الوحدة العربية . يدّعي عفلق بأنّ : " الحزب الشيوعي اعترف لأول مرة عام 1956، في بيان نشره، بالوحدة العربية كتيار تقدمي شعبي. على انه قال في ذلك البيان مستدركا إن هذه الوحدة من صنع التطور التاريخي ولا فضل فيها لحزب أو هيئة أو أفراد." (2)
لم تكن قضية الوحدة العربية غريبة لدى الأحزاب الشيوعية في الدول العربية ولم تطرحها في عام 1956 ، كما يدعي عفلق ، بل طرحتها عندما كان عفلق دون مستوى المراهق السياسي . " فمنذ عام 1931 تدارس الحزب الشيوعي السوري واللبناني (كانا يؤلفان حزبا واحدا) والحزب الشيوعي الفلسطيني قضية الوحدة العربية والإتحاد . ونادى الحزبان بإقامة (إتحاد عربي) لا على أساس تجميع الأنظمة الرجعية...وإنما على أساس تحررها ونيل استقلالها الوطني كشرط لإتحادها الحرّ"(3) . وفي عام 1935 انعقد كونفرنس للأحزاب الشيوعية في الأقطار العربية ، واتخذ قرارا يدعو إلى الإتحاد العربي . وكتب سكرتير الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان- فهد في جريدة الحزب "القاعدة" مقالة بعنوان "الوحدة والإتحاد العربي" قائلا : "لم يكن الشيوعيون أقل حماسة ورغبة صادقة لفكرة التقارب والتعاون فيما بين الأقطار العربية . إجتمع مندوبون من مختلف الأحزاب الشيوعية العربية في خريف 1935 ودرسوا هذه القضية من جميع وجوهها وارتأوا الى الأخذ بشعار (الإتحاد العربي) الممكن التطبيق ومناسب للظروف التي تجتازها البلدان العربية ".(4)
إذا كان عفلق لم يقرأ إصدارات الشيوعيين وأفكارهم ، فكيف يدعي في كتاباته ،أولا ،بأنّ الشيوعية غير ملائمة للأقطار العربية ، وعندما تدعو الشيوعية الى النضال من أجل إنهاء إستغلال الإنسان للإنسان وعدم شرعيته أي إنهاء التفاوت الطبقي ، وأنّ الإنسان أثمن رأسمال وإنّ الخيرات المادية والروحية التي يخلقها هي ملك له وليست لحفنة من الكسالى المتسلطين . ألم تنطبق مبادئ الشيوعية هذه على الإنسان العربي ! إلاّ أنّ عفلق وأمثاله يريدون سلب الإنسان العربي تفكيره والاستحواذ على عواطفه القومية والدينية وتسخيرها لمنافع حزبية وذاتية ضيقة ! وهذا ما كان ولايزال يروّج له إعلام الدكتاتوريات المستبدة وأسيادهم من أنظمة الرأسمال العالمي ،  سرّاق ثروات الشعوب . وثانيا، إذا كان عفلق يقرأ إصدارات الشيوعيين العرب ، فما هذا التلفيق والكذب المكشوف والتشهير بالشيوعيين ، أين كان عفلق من الوحدة العربية عندما كان الشيوعيون العرب يتدارسونها لوضع الطريق الأمثل للسير نحوها منذ ثلاثينيات القرن الماضي !
بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا أخذ عفلق ينشر مقالاته وأحاديثه حول أهمية الحدث ويكيل المديح للقائمين عليها وأنّ أفكاره الوحدوية والقومية قد تحققت . وجاء في إحدى مقالاته يقول: "هذه الخطوة التاريخية التي رأى فيها العرب حلما يتحقق، كانت بالنسبة إلى الطليعة المؤمنة حقيقة واقعة منذ سنين طويلة ألهمت تفكير المناضلين، وحددت سلوكهم وأسلوب عملهم ومكنتهم من رؤية حقيقة الأمة من خلال الواقع المريض الكثيف...ولئن جاءت هذه الخطوة في طريق الوحدة الكبرى، فريدة في نوعها من حيث سلامة الشروط وثورية الاتجاه وديمقراطية التحقيق, فلأن مفهوم الوحدة الذي قدر له أن ينجح كان نقيضا للمفهوم القديم الجامد المتناقض"، (5) . لكن الشعب السوري ، وبعد ثلاث سنوات ، اختار الانفصال عن مصر لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية ، وفي مقدمتها فرض نظام ديكتاتوري قمعي ، يتحكمّ فيه وزير داخلية سوريا عبد الحميد السرّاج الذي عينه عبد الناصر حاكما مطلقا عليها ليعبث بأرواح الناس من اعتقال وتعذيب وقتل واغتصاب . وكان هذا القاتل الوحدوي قد أمر بتذويب جثة الشهيد فرج اللّه الحلو سكرتير الحزب الشيوعي اللبناني بحامض النتريك بعد تعذيبه لعدة أيّام وإخفاء الجريمة ، وأنكر عبد الناصر وقوع الحادثة . هذه هي وحدة عفلق التي يقول عنها :"فريدة من نوعها من حيث سلامة الشروط وثورية الاتجاه وديمقراطية التحقيق" . وبعد الانفصال استدار عفلق في الاتجاه الآخر، وأخذ يكيل للنظام المصري وقيادته أسوأ النعوت ، وتراجع عن شعار الوحدة الفورية . وفي إحدى مقالاته حول الانفصال يقول :"إن الوحدة ليست ممكنة التحقيق في مستقبل قريب كما يريد الانفصاليون ومستغلو الانفصال أن يوهموا الناس ليبرروا تسلطهم وإرهابهم... ومن حق الشعب في كل قطر أن يبدي رأيه فيها وان يسهم في توفير كل الضمانات التي تيسر لها التحقيق والتطبيق السليم الناجح" ، ويضيف في مقال آخر :"ولقد رأينا في الماضي، أثناء التجربة الأولى للوحدة، ما حل بها من انحراف وتشويه عندما استأثر الحاكم (وهنا يقصد جمال عبد الناصر- تنويه من الكاتب) بتوجيهها واعتبرها ملكا له وكسبا شخصيا لزعامته، فسيّر مقدراتها في معزل عن الشعب داخل الجمهورية وخارجها "(6). ألم يكن رأي الشيوعيين صائبا حول موقفهم من الوحدة منذ عام 1931، أي قبل سنتين من عودة عفلق من فرنسا !!!
لم يستطع الحلف المعادي المشبوه من جرّ الجماهير العراقية إلى جانبه تحت شعاراته المشبوهة ، لكنّ أسبابا أخرى إلى جانب ما ذكرناه ، لعبت دورا في تسهيل مهمة الانقلابيين ، وهي :
- تفرّد الشهيد قاسم بالسلطة وعزل نفسه عن الأحزاب الوطنية وحضر نشاط الحزب الشيوعي ونشاط المنظمات الديمقراطية والمهنية ونقابات العمال والجمعيات الفلاحية واعتقال الناشطين فيها ,
- العفو عن المتآمرين على سلامة الدولة بإطلاق مقولتيه " الرحمة فوق العدل والقانون" ، و"عفا اللّه عمّا سلف "، رغم قيام هؤلاء المتآمرين بعشرات المحاولات الانقلابية , وعمليا ساهم ذلك في رفع الحاجز عن نشاطهم التآمري.
- عدم اتخاذ موقف حازم من شركات النفط في فترة التفاوض معها لفرض شروط العراق عليها والحدّ من نشاطها التآمري . ليس هناك عراقي وطني ينكر حبّ عبد الكريم قاسم لشعبه ورغبته في القضاء على الفقر في العراق ، بحيث كان يصطحب معه أحيانا الوفد المفاوض عن شركات النفط للتجوال في المناطق الفقيرة في بغداد وكأنّه يستجدي عطفهم على فقراء العراق ، ولكن ألا يعلم بأنّ الرأسماليين عديمي العاطفة الانسانية ومجرّدين من الضمير وثراءهم يأتي من كدح الشغيلة وامتصاص دماءها؟
- في ظلّ هذه الظروف قامت حركة مسلحة في كردستان العراق بقيادة المرحوم الملاّ مصطفى البرزاني ولم يتمكن طرفا النزاع من حلّ القضية سلميا ، وبعكس ذلك استطاع المتآمرون الاتفاق مع البرزاني بعدم الوقوف ضدّهم في حالة تنفيذ انقلابهم ، مع العلم كان البرزاني يعرف جيدا موقف القوى القومية العربية المعادي للقضية الكردية ، وهم الذين رفضوا انضمام الحزب الديمقراطي الكردي إلى جبهة الإتحاد الوطني ، مما حدا بالحزب الشيوعي إلى إبرام اتفاق ثنائي معه وعدم التفريط بأية قوة وطنية عراقية.
هكذا ساهم الشهيد قاسم في زعزعة الجدار الحامي لثورة تمّوز وتعرض الاستقلال الوطني للخطر على أيد دعاة الوحدة الفورية ، التي لم تر النور خلال أربعين عاما من حكمهم البغيض .
المصادر :
1- في سبيل البعث,ميشيل عفلق- القسم الأول,الباب الثالث
2- المضدر السابق الباب الأول
3- يوسف سلمان يوسف(فهد) المختارات ص327-354
4- المصدر السابق
5- في سبيل البعث، ميشيل عفلق، حول الوحدة بين سوريا ومصر