جمعة الالام وصلب المسيح

بدء بواسطة عاشقة الورد, أبريل 22, 2011, 04:43:47 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

عاشقة الورد

جمعة الالام وصلب المسيح

تحتفل الكنيسة المقدسة في جمعة الآلام العظيمة بذكرى مأساة الجلجلة متسربلة بالسواد متشحة بثوب الحداد، علامة الحزن والكآبة. وفي صلواتها المسهبة شعراً ونثراً وفي قراءاتها المختارة من الكتاب المقدس، تستعرض النبوات التي أشارت إلى آلام الفادي، فلم يكن ما حدث يوم صلب الرب يسوع على الخشبة ابن ساعته. بل إن السماء قد أعلنته بالنبوات والرموز والإشارات منذ بدء الخليقة وعبر الدهور والأجيال وهذا كله يُعلنه لنا الطقس المقدس. وتريدنا الكنيسة أن نتخيّل لنرى بعين الروح، يسوع فادي البشرية في بستان الجثسيماني في جبل الزيتون ليلة الجمعة، يصلّي ويتألّم. إن الرب يسوع سمح لثلاثة من تلاميذه أن يصلوا معه إلى مكان معين في البستان ويقول الإنجيل المقدس: «ابتدأ يدهش ويحزن ويكتئب». ثم يسلّم إرادته بيد أبيه أمام تلاميذه الثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا الذين اصطحبهم معه «وانفصل عنهم رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى قائلاً: أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 22: 42). ثم يغادر المكان مع التلاميذ الثلاثة لينضمّ إليهم التلاميذ الثمانية، وعند باب البستان يسلّمه تلميذه الخائن يهوذا إلى أعدائه بقبلة الغدر «فقال له يسوع: يا يهوذا أبقبلة تسلّم ابن الإنسان» (لو 22: 48) ولذلك يمتنع المؤمنون طيلة أسبوع الآلام من تقبيل الإنجيل أو الصور المقدسة أو حتى بعضهم بعضاً. وفي الساعة الواحدة صباحاً ذهب به أعداؤه إلى حنّان (يو 18: 13) وفي الساعة الثانية إلى رئيس الكهنة قيافا حيث اجتمع الكتبة والشيوخ... وحوالي الساعة السادسة صباحاً إلى مجمع السنهدريم، وهم أثناء ذلك يعاملونه معاملة المجرمين، ويحضرون شهود زور لا تتفق شهاداتهم الكاذبة. وكان هو صامتاً يتحمّل صنوف العذاب النفسي والجسدي بصبر جميل. ولم ينبس ببنت شفة إلاّ عندما استحلفوه بالإله الحي أن يجيب فيما إذا كان هو المسيح، فيقول بهدوء: «نعم أنا هو» ويضيف قائلاً: «وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة آتياً على سحاب السماء».
كان يسوع في تلك اللحظات في قدس أقداس آلامه المحيية، لذلك ففي صلاة ليلة جمعة الآلام التي يقضيها المؤمنون ساهرين، يرتلون الأناشيد الحزينة الداعية إلى الخشوع والبكاء ويقولون فيما يقولون: إن شبل الأسد محبوس فمن يقوى على النوم... هل يعقل أن تغفو عين المؤمن بالمسيح وهو يتخيل يسوع يهان ويقف كمجرم أمام المجرمين، وهو البر بالذات. ويحكمون عليه بالموت وهو الحياة ومانح الحياة للبشر. أما تلاميذه فقد هربوا ليتمّ الكتاب: ضُرب الراعي فتبددت الخراف.
وصباحاً أحضروه أمام بيلاطس ممثل السلطة الرومانية متّهمين إياه بأنه رفض ان يدفع الجزية لقيصر وأنه يقول عن نفسه أنه ملك... ويحاول بيلاطس إعلان براءة يسوع: لم أجد فيه علة للموت، يقول لليهود. أما هم فكانوا يصرخون: اصلبه اصلبه... وعندما يخيّرهم بين إطلاق سراح يسوع أو سراح باراباس المجرم الكبير، يجيبونه: أطلق باراباس. والطقس الكنسي يعقد المقارنة بين البار القدوس يسوع وبين باراباس المجرم الكبير... ويأخذنا الطقس الكنسي إلى بيت بيلاطس لنرى امرأته قلقة مضطربة لحلم رأته في تلك الليلة وترسل إلى زوجها لتقول له إيّاك وذلك البار، إنه سيحاكمك وإذا ما حكمت عليه بالموت، ستنصب لعنة السماء عليك فخذ الماء، واغسل يديك لتكون بريئاً من دمه الطاهر ليكن دمه على يهوذا وقيافا وحنّان الذين أسلموه للموت الويل لهم إلى الأبد. فغسل بيلاطس الجبان يديه بالماء معلناً أنه بريء من دم البار يسوع، وأخذت الأمة اليهودية مسؤولية موته على عاتقها ونادى الشعب الجاهل قائلاً: دمه علينا وعلى أولادنا، وحكم على البار بالموت صلباً وتحمّل الآلام والجلد المبرح والضرب الأليم وحمل صليبه بين جمهور من الناس المستهزئين به، وعُلّق عليه ما بين السماء والأرض وكأني به وقد رفضته السماء لأنه قبل على ذاته أن يحمل خطية الأرض وسكانها، والخطية مرفوضة رفضاً باتاً من إله السماء، ورفضته أيضاً الأرض لأنه بكّت رؤساء كهنتها، وقرّع فرّيسيها، ووبّخ وأنّب الذين حادوا عن شريعة الله، فعُلّق على العود، ليربط السماء بالأرض ويقيم الصلح بين اللّه أبيه والبشر الذين صار واحداً منهم، وليحوّل لعنة الخشبة إلى بركة سماوية بل ليجعل الصليب سلّماً يصعد عليها إلى السماء الذين آمنوا به مخلّصاً للبشرية، فتبرروا وتقدّسوا وصاروا أولاداً للّه بالنعمة وورثة لملكوته السماوي. كما تبرهن لنا الكنيسة أن الإله المتجسّد المسيح يسوع الذي تنبأ هو ذاته عن الآلام التي سيتحمّلها والموت على الصليب وبعدئذ القيامة، وأنبأ تلاميذه بذلك قبل حدوثه، مبرهناً على أنه إنما قبل الصلب والموت اختيارياً. كان أنبياء العهد القديم قد تنبّؤوا عنه بأنه يحصى مع الأثمة ولذلك صلب معه لصان «اشتركا أولاً بتعييره مع المعيّرين... ولكن أحدهما وهو يسمع الرب وهو يتألم على الصليب يطلب من الآب أن يغفر لصالبيه، أنعم اللّه عليه فدافع عن يسوع البار وكان هذا الوحيد أثناء صلب المسيح يدافع عنه وهو يوبّخ زميله قائلاً: «إذا كنا قد حكم علينا، فإنما نلنا جزاءنا الحق، ولكن هو لم يصنع ما يستوجب ذلك الحكم» في هذه الكلمات نلمس الندامة والاعتراف والتوبة... ويلتفت إلى الرب قائلاً: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك فقال له يسوع: الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42و43) وعلى الصليب والمسيح في قدس أقداس آلامه لم ينسَ أمه الحزينة مريم العذراء فيوصي بها تلميذه يوحنا... لقد تألّم وتكلّم وأعلن أن الخلاص قد كمل، وأخيراً ناجى أباه قائلاً: «أبتاه بيديك أستودع روحي». والكنيسة المقدسة بالاحتفال في هذه الذكرى المقدسة، تريدنا أيضاً أن نقبل المسيح مخلّصاً لنا وتحثّنا على التوبة والتخلّي عن الخطية وأن نحيا في المسيح وأن نسلّم إرادتنا له ونحمل صليبه ونتبعه في طريق الجلجلة، كما يصف ذلك الرسول بولس بقوله: «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ» (غل 2: 20).

كلمات يسوع المسيح على الصليب

«يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»(لوقا 23: 34)

لنتقدَّم بكل اتضاع إلى الجلجثة، ولننظر بخشوع إلى المصلوب فنرى ما لم يخطر على بال! لقد عصب أعداؤه رأسه بأكليل الشوك، ولكن ما أرهب الجلال الذي على جبينه! علّقوه على الصليب فكان الصليب رايةً لإعلان مجده الأدبي والروحي. صرخوا للحاكم قائلين: «اصلبه» أما هو فصرخ إلى الله قائلاً: «اغفر لهم». يا لها من كلمة! إنها كلمة محبةٍ في ضوضاء البغضة، وكلمة هدوءٍ في أعاصير الألم، وكلمة صلاحٍ في أروع مظاهر الفجور، وكلمة ثقةٍ، لأن المسيح لم يمُت بيد أعدائه بل مات عنهم. وهي كلمة محتضرٍ في سلطانه مفاتيح الحياة، وكلمة متّهمٍ يُصدِر حكم العفو الملكي، وكلمة ختمٍ عمليّ لما علَّم به من الصفح عن السيئات، وكلمة إنجازٍ لِما هو مكتوبٌ «إنه شَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 12)، وكلمة عظمةٍ واقتدار في ثياب الضِّعة والضعف. كان عظيماً يوم تكلم بالقوة في سيناء، حيث تقدَّمته الرعود وحفّ به الضياء. ولكنه صار أعظم، يوم تكلم بالحب في الجلجثة وهو مسمَّرٌ على الصليب مثخنٌ بالجراح. فعظيمٌ هو دِينُ العدل الخالي من العفو، ولكن أعظم هو دِينُ الرحمة الغافرة، دِينُ «دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ» (عبرانيين 12: 24).

لقد رُفع الصليبُ كمذبحٍ، وعُلِّق عليه المسيح كذبيحة. وكم نتعجب من أول كلمةٍ دشَّن المسيح بها هذا المقامَ الكهنوتيَّ العظيم. وتعجُّبنا من طلبه الغفران لأعدائه لا يقِلّ عن تعجُّبنا من الحُجّة التي دعم بها هذا الطلب

«ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ»(لوقا 23: 43)

إنها كلمة تروِّع الفؤاد عجباً وتملك الحواس طرباً، فهي كلمة الملك المنتصر في الموقعة الفاصلة! لقد استضعفوه بالصليب ولكنه انتصر بالمحبة! وأحصوه مع أثمة، فأحصى الأثمة في بره! وجذبوه للموت فأحيا المائتين! وجعلوه بين اللصوص فسرق القلوب للحق! وأذاقوه الألم فصار ألمه فداءً! وقدموا له الشوك تاجاً فقدم لهم الفردوس مقاماً! وجعلوا الصليب مِعولاً لهدم دعواه فاتّخذه سُلّماً يبني عليه ملكوته! كان رؤساء اليهود حسودين سقيمي الفهم فاتهموه لدى الحكومة الرومانية أنه ثائر ينادي بنفسه ملكاً ضد قيصر، وبهذه العلة سلطوا عليه بأس انتقامهم. ولم يكفهم أن يعذبوا جسده بالصليب حتى أحضروا معه لصين ليُصلبا على جانبيه تنكيلاً به، فتتألم نفسه وتنكسر من العار. وكان المشاهدون لهذا المنظر من يهود ورومان يستهزئون بهذا الملك الذي لا يقوى على تخليص نفسه من الصليب. ودفع هذا المصلوبين الثلاثة إلى تبادل الحديث.

أما اللص الأول فشاطر الجمهور آراءهم، وسأل على سبيل الاستهزاء: «إن كنت أنت المسيح، فخلِّص نفسك وإيانا». فانتهره زميله قائلاً: «أَوَلاَ أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه! أما نحن فبعدلٍ ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله». ثم بإدراكٍ دقيق لمقام المسيح، وشعورٍ صادق بالندم على ما سبق، وبروحٍ تنزع عن الفناء إلى البقاء قال للمسيح بكل اتضاع: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». فأجابه المسيح: «الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس». كان اللص الأول في طريق الموت وقلبه لا يذوب، كأنه قُدّ من صخر. أما اللص الآخر فشعر أنه في موقفٍ حرج إذ حضرته الوفاة، فرأى أن ينتهز الفرصة ويُعِدّ للمستقبل عُدَّته.

وانصرف تفكيراللص الأول إلى انتهاء حياته، وودَّ لو يعود إلى الحياة الأرضية ويشاطر بسهمٍ في ملكوتٍ زمني، فخاب رجاؤه وطاش سهمه. أما اللص الآخر فتحوَّل شوقاً إلى العالم الآخر، ورجا أن يكون له أقل نصيبٍ في دائرة ملكوت السماء، فبلغ ما في نفسه وتحققت آماله. كان اللص الأول على قيد شبرٍ من المخلّص ومات هالكاً، لأنه بمحض إرادته أصرّ على عناده ومضى في غلوائه واتخذ اليهود أُسوته. وكان اللص الآخر على مقربةٍ من المخلّص فنال خلاصاً لأنه خشي الله وخضع لمشيئته، وآمن بالمسيح واتكل على رحمته.

كان اللص التائب مسمَّراً على الصليب فلم يبق فيه حراً إلا قلبه ولسانه، فآمن بقلبه واعترف بلسانه، فأجزل له المسيح العطاء بقوله: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس».

«فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَٱلتِّلْمِيذَ ٱلَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ» (يوحنا 19: 26 و27)

هلموا انظروا ابناً باراً، في عنفوان الشباب وربيع العمر، يموت مصلوباً على مرأى ومسمع من أمه الحزينة، وهي تسكب أقدس مشاعر الأمومة المتألمة. هجرت النوم وجفت الرقاد، لأن اليهود قبضوا على ابنها وجرّوه للمحاكمة دون أن يجني ذنباً أو يأتي إثماً. وسارت وراءه بخطى واسعة، ولكن ازدحام الجماهير الهائجة المائجة حال دون أن تراه أو تلحق به! ولما وصلت مكان تنفيذ الحكم الظالم، تحيط بها بعض النساء المخلصات، يزاملهن يوحنا الحبيب، وقفت من بعيد! هناك سمعت الأم دقات المسامير في جسد ابنها العزيز! وسمعت تعييرات المعيّرين وهزء الساخرين، ورأت ابنها يُعلَّق عرياناً على خشبة، فوق رابية عالية في الشمس المحرقة، ورأت أربعة حراسٍ يقتسمون ثيابه ثم يلقون قُرعةً على قميصه! فدفعتها العاطفة إلى الأمام، فشقَّت مع زميلاتها صفوف الأعداء، يتبعهن يوحنا،ووقف الجميع بجوار الصليب!

هناك وقعت العين على العين وقعاً يفطر القلوب، والتقت النظرات بالنظرات لقاءً يشق الأفئدة! وفي صمتٍ رهيب تبادلا بتبادل اللحظات مأساة الحب ولوعة الألم، فكانت دموعها المنهمرة تزيد لجّة آلامه، وكانت دماؤه الجارية تعج في بحر آلامها! صمتوا لأنهم عاجزون. أما هو فحتى في أوجاع موته لم ينسَ مواساة الغير، فالتفت يوصي والدته بيوحنا، ثم ليوصي يوحنا بوالدته. فجاءت تلك الوصية مرآة جلية تُظهر لنا الموصي في عظمة طبيعته الفائقة، والموصَى والموصَى بها في أجمل خُلُقهما وأكرم فضلهما.

«وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي» (أَيْ: إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)» (متى 27: 46)

هذه كلمة عميقة رائعة نطق بها المخلِّص بعد أن تعلَّق على الصليب ست ساعات عصيبة، على رأسه إكليل من الشوك، وفي ظهره أخاديد من آثار السياط، ويداه ورجلاه مثخنة بالجراح. وكلما وهنت قواه وثقُل جسمه زادت ثقوب المسامير اتساعاً، حتى صار كل جسمه يقطر دماً من هامة الرأس إلى أسفل القدم!

وكانت الشمس في الثلاث ساعات الأولى مشرقة كعادتها، وأصوات الجماهير الهائجة تشق عنان السماء، والأغلبية الساحقة يهزأون به، وفئة قليلة تنوح عليه. فكان تارة يصلي لأجل المسيئين، وأخرى يواسي النائحين! غير أنه في منتصف النهار أسدلت الظلمة ستارها الكثيف فصمتت الألسنة وهدأت الأصوات وسكنت الحركات ثلاث ساعات! وكان المخلِّص في هذا السكوت الرهيب المستوحش يعاني آلاماً نفسية مبرحة، غير ما كان يعانيه من ألم الصلب وعاره. كانت آلامه دفينة لم تُر ولن ترى لأن الظلمة سترتها عن عيون البشر. ولكنها كانت آلاماً شديدة لا تماثلها فواجع الحرب الضروس،ولا تحاكيها أهوال الطبيعة الثائرة! آلاماً ذاب في تنّورها فؤاده الكبير كما يذوب الشمع أمام النار! آلاماً سرية من يد الآب، لا يدركها عقل ولا ينطق بها لسان! وما جاءت الظلمة الدامسة تعمُّ الأرض كلها، إلا لتعلن في ثوب الحِداد أن سيد العالم يكابد آلام الموت الكفاري، ويعاني وحده قصاص الخطية كنائبٍ عن البشر! ولم يدُمْ هذا المنظر العجيب الرهيب أكثر من ثلاث ساعات، فما انبلج النور حتى تنفَّس المخلّص الصُّعداء وصرخ بصوت عظيم: «إلهي إلهي لماذا تركتني»؟!

صرخ بصوت عظيم ليعبّر عن مرارة نفسه التي لا يمكن أن تبرز ليشعر بها الحس! وكانت صرخته بلغةٍ عامية، ليسكب شكواه القلبية بسهولة وطلاقة. واقتبسها من المزمور الثاني والعشرين، ليعلن مِن على الصليب أنه هو ذاته المسيا المنتظر.

وإذا تأملنا بخشوعٍ في تفاصيل هذه الكلمة، نرى أننا في قدس أقداس التعليم المسيحي، فهي تشتمل على سؤال عظيم، يحوي أسراراً عميقة، تعلّمنا دروساً قيِّمة.

«أَنَا عَطْشَانُ»(يوحنا 19: 28)

هذه أقصر كلمات المسيح التي نطق بها وهو على الصليب، فجاءت حسب الترجمة العربية في كلمتين: «أنا عطشان» ولكنها في الأصل اليوناني كلمة واحدة، قصيرة في لفظها، لكنها عميقة في معناها. نطق بها المسيح وهو يتجرع الآلام، التي أصبحت قصة الفداء التي يستعذبها البشر المفديون! لقد استساغ المسيح المرّ لنشرب نحن الحلو! وأعلن احتياجه لنعلن نحن حاجتنا إليه! وتوسّل للبشر الضعفاء طالباً شربة ماء، ليكون مطمح الذين يرجونه من البشر، ومعقد أمل اللاجئين منهم إليه، فقد أتعبه العطش ليروي كل ظمآن يقصد مراحمه من نهر الحياة الصافي.

كان العطش قد أخذ من المسيح كل مأخذ نتيجة آلام عشرين ساعة متواصلة من جثسيماني، إلى المحاكم، إلى الجلجثة حيث أصابته حمى محرقة بسبب جراحه البليغة الخطيرة، فجفّ ريقه ويبس لسانه، وتحقّقت فيه نبوّة المرنم: «يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي» (مزمور 22: 15).

ومن العجيب أنه وسط كل هذه الآلام، وبعدما عانى في ساعات الظلمة هول الدينونة الرهيب، نراه متمالكاً لنفسه، صادقاً في محبته للكلمة المكتوبة. وإذ رأى أن كل شيء قد تم، وبقي إتمام النبوة القائلة: «ٱنْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ... وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور 69: 20 و21). فلكي يتم الكتاب قال: «أنا عطشان».

قد بخل عليه اليهود بنقطة ماء وهو مشرفٌ على الموت،بسبب ما كان في قلبهم عليه من حقد. واستهزأ به جنود الرومان لبلوغه هذا الدرك من العجز والبؤس، فأخذ أحدهم اسفنجة وملأها خلاً ووضعها على قصبة وسقاه. فلما ذاق ذلك الخل الذي لا يسيغه الفم قال: «قد أكمل». وهكذا مات بين أعدائه في شدة العطش.

وإذا أمعنا النظر في قوله له المجد: «أنا عطشان» تتجلى لنا شخصيته المباركة في أربعة أمور: طبيعته، وعمله، ومثاله، ومطلبه.

«قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا 19: 30)

كلمة تملك الأفهام وتأخذ بمجامع القلوب، وتعبِّر عن الظفر وتُشعِر بالانتصار، وتنمُّ عن نصرةٍ هادئة وسط أهوال الموت، وترقَى قمم المجد فوق رابية الصليب، وتُطلِع صُبح الرجاء فتمحو ظلمات القنوط، وتتلألأ بنشوة الفرح وهزّة السرور، وتشفّ عن لذّة الوفاء وهناءة النجاح، وهي ختمٌ وتأمين على شؤونٍ جليلة تمَّ تنفيذها.

ففي تلك اللحظة الخطيرة التي فرغت فيها جعبة أعداء المسيح من سهامهم، وتلقّى المسيح منهم كل براهين حقدهم، بلغت الكفارة كمالها، ومِن ثمَّ أنجز المسيح الوعود وأتم العهود. فقد أكمل المشيئة الإلهية ونفذ قضاءها المحتوم، وأنهى شريعة الظلال والرموز لتفسح المجال لحقائق الفداء. وهكذا قضى المسيح على قوة الخطية وسلطانها، فصارت كأنها لم تكن، وودّع الألم ليستقبل المجد. فلما بلغ قمة هذا الانتصار، والصليب خلفه والمجد في انتظاره، هتف بصوتٍ عظيم «قد أُكمِل». فهذه الكلمة السامية جامعة شاملة لأمور عظيمة أُكمِلت في المسيح من كل جهة، سواء من جهة عداوة اليهود له، أو من جهة قصد الله فيه، أو في تتميم نبوات الكتب المقدسة عنه، أو إشارات الناموس الطقسي إليه، أو علاج خطية البشر به، أو انتزاع حياته منه، أو إنجاز عمل الفداء بواسطته.

ومن امتيازنا العجيب أن نشارك المسيح في أفراح الصليب، ونشاطره مباهج الفداء. فيحلو لنا أن نتأمل هذه الكلمة لنرى ما «قد أكمل».

«يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي»

(لوقا 23: 46)

هذه هي آخر الكلمات العزيزة التي نطق بها المسيح على الصليب، ويعتبر ما تضمَّنته من حقائق إحدى دعامات الإيمان المسيحي. فقد أخذ المشاهدون للمسيح المصلوب يُعيّرونه ويستهزئون به ويُنكرون أنه ابن الله. ولكنه وسط كل هذه المفتريات لم يتردد عن أن يعلن أصله الإلهي فنادى: «يا أبتاه». صحيح أنه كان يشرب كأس الموت، لكنه لم يكن يستشعر خشية ولا يرهب شراً، بل يقول في ملء الهدوء وبكامل الطمأنينة: «في يديك أستودع روحي». قالها بقوة وثقة، لأنه بذل نفسه عن البشر الخطاة بمحض إرادته، وهو القائل عن حياته: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا 10: 18).

مات المسيح وقد نكس الرأس علامة الطاعة للآب، وليضم جسده إلى الأرض التي أحب سكانها. فالرأس المكلل بالمجد والعز ينحني الآن في إكليل من الشوك أمام الموت. مات المسيح في السنة الخامسة عشرة لسلطنة طيباريوس قيصر في السنة السبتية، في الشهر الذي يُعتبر رأس الشهور العبرية، في اليوم الذي قدم فيه الفصح. وبينما كانت ألوف الحملان تُذبح كان الحمل الحقيقي يجود بدمه وبنفسه من أجلنا. فكان موته بداءة حياة وراحة وعيد للجنس البشري.

مات المسيح رب المعجزات، فلا عجب أن انشقّ حجاب الهيكل وتزلزلت الأرض وتشققت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من أجساد الراقدين. وجميع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر رجعوا وهم يقرعون صدروهم قائلين: «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً» (لوقا 23: 47 و48).

مات المسيح رئيس الحياة فهل تُطوَى صحيفته ويلحق بغيره من البشر؟ لا!! فقد استودع نفسه بطمأنينة مطلقة في يد الآب ليقوم في اليوم الثالث. فترون من هذا أن كلمته الأخيرة برهان واضح على ثقته الوطيدة بالآب، وحجة دامغة عن نظرته للموت، وشاهد صادق عن سلامه التام.




تحياتي


[/size]
كل العيون تشوف عيونك
بس عيونك تشوف مين
يتمنى كل واحد يكون نصيبك
من زود سحر العيون
يا بنت والله دخيلك
ارحميني يا حنون
سبحان من جمل عيونك
وانا مفتون بهذه العيون

Sissy Gaisberger

#1
كل سنة وانتى طيبة ياقمراية ... عيد قيامة مجيد