موسيقا الكنيسة السريانية الارثوذكسية (الجزء الثالث)

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 04, 2014, 08:42:07 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

موسيقا الكنيسة السريانية الارثوذكسية
(الجزء الثالث)



نينوس اسعد صوم

اصل السلم الموسيقي السباعي الأبعاد:

لقد رافقت الموسيقا الإنسان منذ وجوده على الأرض، وان جميع الشعوب القديمة، مهما بلغت من التقدم والحضارة أو الجهل والتخلف، كانت تملك نوعاً من الموسيقا الخاصة بها، ومعظمها أستعملت إما السلم الموسيقي السباعي او السلم الموسيقي الخماسي، وهذا واضح من نتاجات الشعوب الموسيقية التي استمرت لغاية اليوم. إذ أن كل الشعوب كانت لها موسيقاها الخاصة بها واخترعت آلاتها الموسيقية وطورتها خلال مجرى تاريخها. والسلم الموسيقي السباعي لم يكن مقتصراً على أمة معينة كما أدعى البعض.

ومن الشعوب القديمة التي استعملت السلم الموسيقي السباعي نذكر: السومريين والاكاديين والاشوريين والحثيين والحوريين والاوغاريتيين والكنعانيين والاراميين السريان والعبرانيين والفراعنة والشعوب الهندية والفارسية والشعبين اليوناني والروماني، وغيرهم. ولازال قسم من هذه الشعوب التي لا زالت مستمرة في الوجود تستعمله في موسيقاها، كاليونان والفرس والمصريين والسريان.

للأسف لا نعلم شيئاً كثيراً بدقة عن السلم السباعي القديم عند السومريين والاكاديين والاشوريين والحثيين والاموريين وغيرهم، لأن هذه الشعوب زالت من مسرح الوجود، وزال معها سلمها الموسيقي ولغتها وحضارتها، ولم يبق شيء منها سوى تلك الأطلال التي بقيت شاهدة على عظمة وحضارة هذه الشعوب ومدى تقدمها وازدهارها. لكن علماء الأثار أكدوا مؤخراً من خلال اكتشافاتهم في الحفريات بأن تلك الشعوب كانت متطورة جدا موسيقياً، وكانت لديهم آلات موسيقية كثيرة ومتطورة، قسم منها استمر في الاستعمال ووصلت لنا كما كانت عليه لكن مع تغييرات طفيفة في شكلها وفي إمكانيات إستعمالها، مثل آلات العود والناي، وبعض الطبول. لكن أهم حدث مكتشف كان السلم الموسيقي السباعي الذي استعملته هذه الشعوب وعلى رأسها السومريين. وليس بالضرورة أن تتفق جميع السلالم الموسيقية السباعية لجميع هذه الشعوب بمسافاتها الصوتية.

إن أقدم السلالم الموسيقية التي وصلت إلينا عبر تداولها وإستمرارها دون انقطاع كان السلم الموسيقي السباعي اليوناني من القرن السادس قبل الميلاد. فإن كان هذا السلم متكاملا ومنتظما في حسابات أبعاده الصوتية في القرن السادس قبل الميلاد، فهذا يعني أن هذا السلم أستعمل في اليونان قبل ذلك الوقت ربما بفترة طويلة جدا، وتناقلته الأجيال شفهياً لغاية وصوله الى فلاسفة اليونان الاجلاء (كانت الموسيقا قديماً جزءا من الفلسفة)، فاشتغلوا عليه بشكل علمي دقيق، وعملوا على تطويره وتنظيمه وحساب أبعاده الصوتية بدقة.

وبسبب العلاقات التجارية والقرب الجغرافي بين شعوب شاطىء البحر المتوسط والداخل السوري والاناضول واسيا الصغرى واليونان، اثرت شعوب المنطقة على بعضها وانتقلت بعض مظاهر الثقافة المشتركة بين بعضها كانتقال الابجدية الفينيقية الارامية الى اليونانيين. وبفضل حركة التأثير الثقافي بين تلك الشعوب، نعتقد بان السلم الموسيقي الأوغاريتي انتقل بدوره الى اليونانيين واصبح الركن الأساسي الذي أسس عليه السلم الموسيقي اليوناني المتطور. ان السلم الموسيقي اليوناني اذاً وكما نعتقد قد تطور مباشرة من السلم الموسيقي الاوغاريتي واستعمله ابناء اليونان فترة طويلة لغاية وصوله ليد الفلاسفة اليونان واشتغالهم عليه وتطويره وحساب وتحديد مسافات ابعاده الصوتية.

وما يدعم هذا الرأي هو التأثيرات الفينيقية والكنعانية والآرامية الواضحة في معالم الحضارة اليونانية، وإستعارة اليونان الكثير من أركان ثقافتهم وحضارتهم منهم، وخاصة أبجدية الكتابة اليونانية.

ﻓﻔﻲ ﺳﻨﺔ 1948 اﻛﺘﺸﻔﺖ اﻟﺒﻌﺜﺔ اﻷﺛﺮﯾﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﯿﺔ أقدم نوطة موسيقية في العالم تعود لعام 1400 ق.م، في مدينة اوغاريت التاريخية في موقع رأس شمرا الواقعة على الساحل السوري وإﻟﻰ الشمال من ﻣﺪﯾﻨﺔ اﻟﻼذﻗﯿﺔ ﺑﺤﻮاﻟﻲ 9 ﻛﻢ، وتبين أن هذه النوطة مبنية على السلم الموسيقي السباعي الأبعاد. وﻛﺎﻧﺖ أوﻟﻰ اﻟﺘﻔﺴﯿﺮات ﻧﺘﯿﺠﺔَ ﺑﺤٍﺚ ﻗﺎم ﺑﮫ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﺛﺮي اﻟﻔﺮﻧﺴﻲ "ﻋﻤﺎﻧﻮييل ﻻروش" وﻧﺸﺮھﺎ ﺑﺎﻟﻔﺮﻧﺴﯿﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺔ "أوﻏﺎرﺗﯿﻜﺎ" وﻗﺪ ﺟﺎء بنتيجة أن اﻟﺮﻗﯿﻢ الأوغاريتي ﯾﺤﻤﻞ أﻧﺸﻮدةً ﻣﻮﺟﮭﺔ إﻟﻰ إﺣﺪى آﻟﮭﺎت اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ.

إلا ان اﻟﻐﻤﻮض يكتنف ھﺬا "اﻟﺮﻗﯿﻢ اﻷوﻏﺎرﯾﺘﻲ" لأﻧﮫ ﻣﺪون ﺑﻠﻐﺘﯿﻦ وﻟﻐﺎﯾﺘﯿﻦ، اﻟﺠﺰء اﻟﻌﻠﻮي ﻛﺘﺐ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﺤﻮرﯾﺔ وﻓﯿﮭﺎﻋﺒﺎرات ﺷﻌﺮﯾﺔ رﻗﯿﻘﺔ ﻣﻮﺟﮭﺔ ﻟـ ﻧﯿﻜﺎل زوﺟﺔ إﻟﮫ اﻟﻘﻤﺮ.. أﻣﺎ اﻟﺠﺰء اﻟﺴﻔﻠﻲ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﯿﻢ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻐﺮق ﺗﻔﺴﯿُﺮهُ وﻗﺘﺎً أطﻮل، واﺳﺘﻨﺘج أﻧﮫ اﻟﻨﻮطﺔ اﻟﻤﻮﺳﯿﻘﯿﺔ ﻟﮭﺬه اﻷﻧﺸﻮدة، وھﺬه اﻟﻨﻮطﺔ ﻣﺪوﻧﺔ ﺑﺎﻟلغة اﻷﻛﺎدﯾﺔ ذات الكتابة اﻟﻤﻘﻄﻌﯿﺔ (المسمارية) اﻟﺘﻲ ﺳﺎدت ﻓﻲ ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻓﻲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ وكانت لغة الشرق الاوسط.

وعزف علماء الموسيقا في القرن العشرين هذه المقطوعة الموسيقية عدة مرات وبمراحل مختلفة، بعد ان تعمق علماء الآثار والموسيقا في تفسير الرموز الموسيقية الموجودة في الرقيم الأوغاريتي، وفي النص الشعري المكتوب عليه باللغة الحورية (نسبة الى الحوريين الذين حكموا مساحات واسعة من بلاد المشرق لمدة تجاوزت الاربعمائة عام)، وإجراء تعديلات جديدة على التدوين الموسيقي.

يعود الفضل للباحث في علوم الاثار واصول الموسيقا العالم السوري "راوول غريغوري فيتالي" (1927 - 2003) الايطالي الاصل والسوري المولد في مدينة اللاذقية، صاحب الدراسات العديدة في التاريخ والموسيقا، ومن أهمها: "التناظر الشكلي للأحرف الاوغاريتية"، و "أوغاريت لا كنعانية ولا فينيقية"، و "الرقم عبر التاريخ - اختراع وتطور كتابة الاعداد"، "الكنعانيون"، وغيرها. وقد نشر دراسة قيمة سنة 1979 منشورة في عدة مجلات عالمية مختصة بعلم الموسيقا حول الرقيم الاوغاريتي المصنف تحت اسم (H – 6) الذي يضم أنشودة العبادة الاوغاريتية، ويعد أقدم تدوين موسيقي في العالم أجمع. وقدم فيه قراءة جديدة للتدوين الموسيقي لا يعتمد على فكرة تعدد الاصوات، إنما على ترجمة بعض الرموز المتواجدة في الرقيم الى أزمنة موسيقية، وعلى عدم وجود اشارات تحويل موسيقية ( بيمول و دييز)، وعلى عدم وجود ثلاثة ارباع المسافات الصوتية (ربع الصوت)، ليتم عزفها من جديد على درجة مي ومن مقام الكرد الذي لا يحوي اشارات تحويل من هذه الدرجة، وبشكل مغايير للمرات الثلاث السابقة التي قُرأت وعُزفت، لتصبح المقطوعة متطابقة مع أوزان نصها الأدبي، وليس كما قدمها غيره من الموسيقيين حيث اعتمدوا على فكرة تعدد الاصوات، وكانت قراءة يغلب عليها الرأي الشخصي.

ولكن السؤال المهم هو: هل هذا السلم الموسيقي السباعي هو "حوري" ام "اوغاريتي" الإختراع؟

إن الرقيم الاوغاريتي المكتوب باللغة الحورية فتح ابواباً جديدة للمناقشات والابحاث حول اصول السلم الموسيقي المستعمل في هذا الرقيم.

من المعروف بأن الحوريين حكموا مساحات واسعة من بلاد المشرق ومنها شمال سوريا، لكن بعد قرون عديدة اختفوا من مسرح الوجود بعد ان ذابوا بغيرهم من الشعوب ومنهم الآراميين. وورث الاراميون بدورهم شيئاً من الحضارة الحورية والكثير من الاماكن والمدن الحورية فطبعوها بطابعهم واصبحت آرامية مع الزمن.

يؤكد الرقيم المكتشف في اوغاريت السورية ما للحوريين من مدنية راقية وانتشارا للغتهم، بحيث كتبت فيها أشعار "موسيقا اوغاريت"، ولكن هذا لا يعني أن المقطوعة الموسيقية الاوغاريتية هي حورية المنشأ، إنما هي أوغاريتية الإختراع رغم لغتها الحورية.

ان كون لغة الانشودة باللغة الحورية وكون تدوينها الموسيقي باللغة الاكادية لا يجعلها حورية او اكادية، بل هي اوغاريتية الإنتاج والهوية والابداع كما يصرح العلماء.

إن السلم الموسيقي المستعمل في المقطوعة الاوغاريتية هو السلم السباعي المشترك بين شعوب المنطقة كافة ولربما يكون حوري الاختراع او التطوير، او وصل للاراميين واليونانيين من الحوريين، ليعملوا على تطويره بما يناسب شخصية موسيقا كل منهما. فالسلم الآرامي السرياني واليوناني جذرهما هو السلم الحوري لأن المنطق يقول هكذا.

فلقد ورث الآراميون هذا السلم مباشرة من الحوريين لإحتكاكهم المباشر فيهم، اما اليونان فقد اخذوه عن الكنعانيين والفينيقيين بواسطة الاوغاريتيين المتواجدين على حدودهم، الذين أخذوه بدورهم من الحوريين.

إن هذا الامر يقلب الطاولة على مفاهيم كثيرة ورثناها دون التفكير بها أو البحث والتمحيص فيها أو حتى مناقشتها. اما الافكار القديمة التي تحتاج لمزيد من الاثباتات العلمية واللغوية قد خدمت العلم فترة معينة، ولكن في هذا العصر فان العلوم تتطور والافكار تتجدد، ومثقف اليوم لا يتقبل الكلام الإنشائي الذي يدغدغ فقط احاسيس الانسان كالسابق، إنما يبحث عن الحقيقة العلمية، ويتابع الابحاث العلمية الجديدة ويتبنى نتائجها اكانت لمصلحته أو ضده، لأن الحقيقة العلمية هي فوق كل اعتبار.