سعد كيوان: مسيحيو الشرق بين الحماية واستعادة الدور

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 11, 2018, 02:14:03 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت


سعد كيوان: مسيحيو الشرق بين الحماية واستعادة الدور     
         



برطلي . نت / متابعة
عنكاوا كوم
العربي الجديد / سعد كيوان
صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.

كلام كثير يقال ويكتب هذه الأيام عن دور المسيحيين في الشرق وموقفهم مما حصل ويحصل، من ثورات وانتفاضات وحروب، حولت الشرق الأوسط إلى ملعبٍ للكبار، أدواتها حكام وقوى نافذة على حساب شعوب ومجموعات عانت الأمرّين من الاستبداد أكثر من نصف قرن. ويبدو لافتا، في هذا السياق، موقف الفاتيكان الذي بدأ يعبّر علنا عن امتعاضه من مواقف بعض رؤساء الكنائس الشرقية الذين لم يجدوا حرجا في التنظير لسلوك المستبد، بحجة الدفاع عن وجود المسيحيين، وحمايتهم من الإرهاب، وضمان عدم تهجيرهم من بلدان المشرق العربي. ما طرح أسئلةً كثيرة عما إذا كان المسيحيون أهل ذمة، أو ليسوا في عداد شعوب المنطقة وجماعاتها الأصليين!
لطالما كتب وردد المؤرخون والباحثون أن المسيحيين هم في أساس قيام هذا الشرق، في أساس حضارته، وتنوعه وتعدّده الديني والاجتماعي والثقافي والسياسي، وفي أساس التعايش بين مكوناته من أديان سماوية ثلاثة، المسيحية والإسلام واليهودية، وإلى قومياتٍ حاول العروبيون الشوفينيون تذويبها، وإلى إثنيات وحضارات. وهم أيضا روّاد نهضته في خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، والأعلام كثيرون، من دون الدخول في تعداد الإنجازات والأسماء. كما أنهم كانوا أصحاب مبادرة، وسباقين في حمل أفكار تقدمية وحداثوية، وفي نشر الوعي السياسي، والدفع نحو العمل الحزبي المنظم. ربما يصح القول إنهم كانوا يختصرون معناه!
"بدأ الفاتيكان يعبّر علنا عن امتعاضه من مواقف رؤساء كنائس شرقية لم يجدوا حرجا في التنظير لسلوك المستبد"
وفي المقابل، عرف هذا الشرق أزماتٍ وحروبا وفتوحاتٍ واستعمارا واحتلالات، عاش خلالها المسيحيون معاناة وغزوا واضطهادا، لكنهم عرفوا كيف يصمدون في أرضهم، ويتحصنون في جبالهم ووديانهم... ومنها خرجوا من بوتقة الجماعة إلى بناء الكيانات ورحاب الدول. وأول فكرةٍ كان لبنان الذي أريد له أن يكون نموذجا حضاريا للتعايش والتفاعل بين مكونات هذا الشرق بالذات، كيانا يضم مجموعاتٍ وأفرادا من البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية. نموذجا قال عنه لاحقا، وبعد نحو ستين سنة، البابا الراحل يوحنا بولس الثاني: "لبنان هو أكثر من بلد، إنه رسالة حرية، ومثال تعدّدية للشرق، كما الغرب". وهذه سورية قبل أن تصبح عاصمة الأمويين كانت سورية بولس الرسول، وأرض كل الطوائف والمذاهب المسيحية ومرجعياتها الكنسية.
ولكن النموذج اللبناني لم ينجح ويتبلور كما كان مأمولا له. ثلاثون سنة فقط كانت كافيةً لانفجاره في أكثر من اتجاه، فالمسيحيون أولاً ليسوا بطبيعة الحال من صنف الملائكة، ولم يكن بإمكانهم أن يهضموا جيدا ما قاله ميشال شيحا قبل نحو خمس وسبعين سنة: "لا ننسى أننا من هذا الشرق الذي لا تزال الاختبارات ديدنه الثابت، ولا يزال الفهم والتأويل مرضه، وإننا فيه أرض موعودة للأقليات القلقة، وموضعٌ رفيع تصعد منه بحريةٍ جميع الصلوات. فكان أن صرنا فسيفساء دينية، لا مثيل لها على الأرض، وصرنا لا نحسن أن نسمّي أنفسنا في نطاق الأمة، وفي نطاق المدينة إلا باسم معتقدنا أو باسم طقسنا" (...)، والحال أننا ضرورة إذ علينا أن نتذكّر أن موقعنا الجغرافي يجعل منا، في عين الغير، مرحلةً ومعقلا لهما أهمية كبرى على طريقٍ تترسخ لها صفة العالمية...". ويوم تقدّم الجنوح بالسلطة، والرغبة في الاستفراد الناتجة من الشعور الأقلوي على إرادة التعايش والمشاركة والمساواة، ويوم تفوق الانتماء الطائفي والحزبي على الانتماء الوطني والمدني، ويوم أصبح السبيل إلى "تحقيق الذات"، يتم عبر اللجوء إلى العنف والسلاح والاقتتال... فقد المسيحيون دورهم وموقعهم الريادي في لبنان والمنطقة، وكانت حروب لبنان الخمس عشرة سنة صراعا على النفوذ والهيمنة، واقتتالا دمويا بين مكونات الوطن الواحد، تحرّكه مصالح ومخططات قوى إقليمية أقلوية، وصاحبة مشاريع تفرقة وهيمنة وتسلط، فخاضوا معارك في كل الاتجاهات، مع الخارج والداخل وبين بعضهم بعضا، فـ"قَتلوا وقُتلوا وتقاتلوا في ما بينهم"، على ما يقول المجمع البطريركي الماروني الذي انعقد عام 2003 في وثيقته الصادرة عام 2006.
خرج لبنان من الحرب يرزح تحت نير وصاية نظام سوري أقلوي مستبد. وصاية تحولت إلى احتلال عسكري وهيمنة على القرار السياسي، وشل لمؤسسات الدولة، واستزلام طبقة سياسية مرتهنة، عابرة لكل الطوائف. وصاية دامت أيضا خمس عشرة سنة، ولم تنهر إلا مع اغتيال رفيق الحريري الذي كان يسعى، مع جزء من المسيحيين، إلى التحرّر من الهيمنة واستعادة السيادة وحرية القرار. أي عبر التواصل والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين اللبنانيين، ومن خلال استعادة دور المسيحيين الريادي، والجامع لكل اللبنانيين الأحرار من كل الطوائف والمذاهب والميول السياسية.
هذا الدور هو الغائب اليوم، لأن قسما من المسيحيين، في السلطة وفي مواقع سياسية وروحية مؤثرة، يعتقد أن المسيحيين في الشرق اليوم في خطر، وأنهم يهاجرون بسبب الاضطهاد، وأعدادهم تتناقص. ولذلك، يحتاجون إلى حماية، كونهم أصبحوا أقلية (وربما أيضا أهل ذمة!)، وحمايتهم هي بين أيدي أقليات أخرى مثلهم، لكنها موجودة في مواقع السلطة. ومن هنا، تدعو
"يقف معظم رؤساء الكنائس إلى جانب النظام السوري علنا أو سرا، فيما تقف الكنيسة المارونية حائرة" بعض القوى، وتعمل على تحالف الأقليات في الشرق، أي الاحتماء بالقوي والمغتصب للسلطة، كما الحال في دول محيطة بلبنان، مثل سورية والعراق... ويقف معظم رؤساء الكنائس إلى جانب النظام السوري علنا أو سرا، فيما تقف الكنيسة المارونية حائرة، وهي التي كانت دائما السباقة والساهرة على التصدّي للظلم، وعلى الحفاظ على الدور الريادي، الكياني والجامع للمسيحيين. أو تحاول أحيانا أن تقف "رجلا في الفلاحة ورجلا في البور"!
ووسط عواصف الصراعات والبحث عن دور، ووسط حيرة "الهويات القاتلة" والقلق، دعا البابا فرنسيس إلى عقد لقاءٍ لرؤساء الكنائس الشرقية، في مدينة باري في جنوب إيطاليا، لبحث وضع المسيحيين ودورهم في الشرق. وعشية انعقاد اللقاء، أطلق سكرتير دولة الفاتيكان (أي رئيس الحكومة)، بياترو بارولين، كلاما واضحا ومعبّرا، قال فيه: "إن مسيحيي الشرق ليسوا أقلية، وليسوا بحاجة إلى حماية، وإنما هم مواطنون متساوون في الحقوق، كباقي الجماعات والطوائف، وأصحاب دور ريادي حضاري وإنساني". وفي كلمة الافتتاح، أكد سكرتير بطريركية اللاتين في القدس أن على "الكنائس الشرقية أن تغادر أي تحالف مع السلطات السياسية، وأن لا تثق في ما يحاك من استراتيجياتٍ أمام النزف الهائل الذي أدّى إلى هجرة نصف المسيحيين". وكان لافتا غياب رؤساء كنائس لا يشاطرون بابا روما نهجه ومواقفه بالنسبة إلى الشرق الأوسط تفاديا للإحراج. ولكن رأس الكنيسة الكاثوليكية كان حاسما وجازما عندما خاطب الحضور، معلنا أول مرة موقفا لا لبس فيه رفض خلاله منطق ما أسماه "اللجوء إلى حماية الأقوياء" الذين يستقوون بالسلاح وبالسيف، وأن لا بديل من الحوار. وأكد أن الحضور المسيحي في الشرق "يبقى رساليا وعامل سلام، بقدر ما يبتعد من منطق السلطة". ثم رفع صوته عاليا، مطالبا بـ"الكفّ عن استعمال الشرق الأوسط لغايات ومصالح خارجة عنه، وعن شعوبه".
فهل من يسمع صوت هذا الراعي، وسط غابة من الظلم والاستبداد والقهر والعنف والإرهاب والقتل والتلاعب بمصير الشعوب.