عندما يتحول الثلج الى ذكرى مؤلمة

بدء بواسطة simon kossa, يناير 29, 2012, 09:17:42 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

عندما يتحول الثلج الى ذكرى مؤلمة
شمعون كوسا

أنا ابن ضيعة وعدتها السماء بأِكسائها كل شتاءٍ ثوباً أبيضَ ، ترتديه قِمَمُها وتتزين به كلـّما اشتد عليها البرد ، وإذا تمادى في قساوته تمتدّ مساحته الى تلالها وآكامها ، واذا طال اكثر يتحول الى خيمة تغطي التضاريس والوديان وما تحتويه .
ولقد ابصرتُ النور في كوخ كلـّما نهض صباحا تقع عيناه على هذه القمم ، وبحركة بسيطة تحتضن أنظارُه الضيعة بأكملها .
كان هذا في فترة صباي حيث كان الثلج أحد دواعي سعادتي . كانت تنشرح نفسي لدى تساقطه كندائف قطن ، ولدى رؤيته متراكما ، وعند استسلامه لايادي الكبار والصغارممّن كان يحلو لهم اللهو بتحويله الى تماثيل او كريات يتراشقون بها ، ومن مناظره البديعة أيضا تماسكمه على بعض الاشجار التي كانت باغصانها المحمّلة تبدو وكأنها  بائعات حلوى تحمل الاطباق على يديها .

لا بدّ ان ترتسم هنا علامات استفهام وتعجب على بعض الوجوه  لتقول : ما هي إذن مشكلته  ، فاذا كان قد وجد سعادته مع الثلج ، ما الذي دعاه لاختيار مثل هذا العنوان المتشائم ؟ إني ادعو هؤلاء لسماع الحديث التالي  :

استجابة لعجلة الزمن التي لم تتوقف يوما، خرجت كسائر الخلق من شرنقة الصبا . وبعدما رأيت نفسي صاحب جناحين ، أحسست بالرغبة في الطيران خارج منطقتي بحثا عن مستقبل يؤمّن لي لقمة العيش . حلـّقت بعيدا فوق ارض الله الواسعة الى أن قادتني أجنحتي الى العاصمة ، فهبطت واستقر بي المقام في بغداد .

في صبيحة احد الايام، وبالتحديد قبيل انتهاء الحرب مع ايران، في يوم كانت الشمس قد سمحت لنفسها الشروق بكامل اشعتها لكي تنير الانام إلى أبعد المسافات ،  إشتدّ بي الحنين الى موطني . كان شعورا قويا لم أقوَ على مقاومته، فبدأت بالتهيؤ للسفر مع اثنين من إخوتي . قمت بفحص دقيق للسيارة ، وهذه عملية كان لا بدّ منها في بلد كانت اغلبية عرباته من الاعمار المتقدمة ، بحيث اذا كان الفرد يمتلك عربة بعمر عشر سنوات يعتبر نفسه صاحب سيارة شبه حديثة !!

لم تكن السيارة قد قطعت ستين كيلومترا عندما لاحت علىالشمس علامات شحوب أدّت الى اختفائها بصورة مفاجئة وكأني بها تلقـّت صفعة قوية لشروقها في يوم لم يكن يومها . بدأت الرياح صولاتها وجولاتها ، ولا ادري كيف تمكنت من رصّ الصفوف كقائد مكلف  بتجنيد الغيوم واكمال ما ينقصه منها بقطع سحاب مرتزقة انقطعت بها السبل هنا وهناك ، لان الامر كان خطيرا والتقدّم كان وشيكا !!
لم تمضِ على تحضيرات الهجوم اكثر من خمس دقائق حين وجدنا انفسنا تحت وابل من الامطار هطلت كالحبال وبقساوة أدّت الى توقف الماسحات . خرجت لاستقصي الامر ، وبما اني لم اكن افقه شيئا بشؤون المحركات ، عدت الى المركبة لاتابع سيري . فتحت النافذة لكي أكنس بيدي اليسرى حيّزا صغيرا يتيح  لي ، على الاقل ، رؤية الخطوط البيضاء على الطريق .
عند وصولنا الى منطقة العظيم كان قد بدأ المطر بالتحول الى ثلج  ، وتحولت معه يدي اليسرى من المبللة الباردة الى الجامدة غير انها لم تتوقف ، الى ان بلغنا مدينة كركوك .

توجهنا الى أول ميكانيكي على الطريق ، وتمكن هذا بالفعل من اعادة الحياة الى الماسحات. بعد تناول الطعام في بيت أخي الثالث الذي كان أحد القاطنين في البلدة ، فرحت لاقتراحه حول مبيتنا عندهم لاستئناف الرحلة في الصباح الباكر ، غير ان أحد ركابي ألحّ على مواصلة السفر قائلا : ما حاجتنا للمبيت هنا ، لقد استعادت الماسحات قواها ولا يفصلنا الان عن مدينة اربيل غير ساعة واحدة . كان قد غاب عن بال اخي بان الظلام يفرض نفسه في الشتاء في ساعات مبكرة وبوجه خاص في الايام الممطرة .

إستأنفتِ العربة مسيرتها مُكرَهة ، وبما ان الجو كان مُثلِجا ، لم ينتظر الليل كثيرا في بسط  سواده فاصبحت الحاجة ملحـّة لاشعال القناديل . كبستُ الزرّ المخصص للاضاءة فلم أتلقّ تجاوبا ، اعدت المحاولة مرتين وثلاث ولكن دون جدوى . يا إلهي ما الذي حدث وماذا دهى العربة ، هل أصيبت في نظرها ، وما هذا الحظ  ؟ كيف نستطيع متابعة سيرنا دون أضاءة في الليل ؟ بدأتُ اتابع السير ببطء شديد  لانه لم يعد في متناولي التراجع في طريق ضيق وذي إتجاهين .  وثالثة الاثافي اكتملت بتوقف الماسحات من جديد ، فتحولت حيرتنا الى كابوس يقضة في ليل مظلم وظالم . 

انقبضت صدورنا لاننا وجدنا نفسنا حقا في مهبّ الريح على شارع سيقود بنا الى التهلكة لا محالة . كان الثلج قد غطى الشارع  من الجانبين وكل انحراف ، ولو لشبر واحد ،كان سيؤدي الى الانزلاق في المنحدر الذي كان ينتهي به الشارع من كلا الجانبين .   كان القلق قد  اصطحب معه الخوف بكافة مرادفاته  لاحتلال اقصى نقطة في شعيرات شراييننا ، وكان القلق فعلا موفقا في اختيار رفقته لانه افقدنا كل امكانية او حتى رغبة في المقاومة  .  أمسكتُ بالمقود باعصاب مشدودة ، وكانت أنظاري مغروسة في الخط الذي كانت قد رسمته السيارات التي سبقتني ، ألى ان رأيت نفسي بعد مسافة قصيرة خلف مركبة غدت لنا سفينة إنقاذ  بفضل مصابيحها الخلفية الحمراء . لاني عن بلوغي مستواها رفعت نظري من خطوط الشارع لاتعلـّق ، أو بالاحرى ألتحم بنقطتيها الحمراوين . أعتقدُ جازما بأن سائق المركبة شعر بما نعانيه ، فبدأ يسير وكأنه مكلف بسحب عربتنا ، وفعلا اصبحتُ ارى نفسي مربوطا  بحبال تنتهي بمصابيح السيارة الخلفية .

كنا نتجنب الحديث داخل السيارة ، وكنت أنا حريصا جدا على كبح الدواسات في اوقاتها المناسبة لئلا ينطفئ المحرك وينقطع ما تبقي  لمحركنا  من رمق أخير. كانت الاقدار لنا بالمرصاد ، وفي خضم تخيلاتي احسست بالعربة التي كانت تقلنا وكأنها تجترّ بسكوت ما يدور في خلدها لتقول : لماذا لم ترحموني ، ألم تروا ما ألمَّ بي من عطب ، هل انتم ناوون على قصم ظهري ، لقد استمررتم في غيّكم الى ان  حرمتموني من نظري .

لم يتوقف الثلج ولم تتوقف العربة التي كانت تسحبنا بمصابيحها إلى ان وصلنا مدينة اربيل حيث الانارة كانت تغطي كافة الشوارع . لم يتوقف منقذنا ، وتركنا  دون ان نبصر حتى وجهه،  وكأنه كان قد اقسم على ألا يحسّ احد بالمعروف الذي أسداه نحونا .
بدأنا ننظر الى بعضنا البعض وانفرجت اساريرنا وانفكت عقدة لساننا . بعد دخولنا بيت اخي في اربيل (لان والدنا لم يرزق بأكثر من ستة ذكور ) !! ، أنا الذي لست من هواة الصلوات التقليدية ، دعوت الجميع لتلاوة الوردية وقلت قبل الصلاة ، لا يهمني ما الذي سيلحق الان بالمركبة لاننا نجونا من كارثة كبيرة ، بل من موت محقق .

في اليوم التالي وعند زيارة الميكانيكي ، اتضح بان عطل الاضاءة كان ناجما من ارتخاء في حزام مولد الطاقة (الداينمو) . ومن جهة اخرى ، لم نستطع الوصول الى الضيعة التي كنا نقصدها وراء الجبال ، لان الثلج كان قد اغلق كافة المنافذ ذهابا وايابا .

خلقَ الثلج لديّ ، دون إرادتي ، ذكرى مؤلمة حتى أني في السنوات التي قضيتها في الاردن في اوقات لاحقة كنت أهابه ، وكلـّما كان يبدأ بالتساقط  كنت اعجّل بالرجوع الى البيت خشية انقطاع الطرق واختفاء سيارات الاجرة من الطرقات .

وبينما كنت أتهيأ لاختتام المقال ، أحسست بالثلج يناديني ليدلي بالتصريح التالي : لا تذهب قافلا الابواب قبل ان تسمع دفاعي . يا صاحبي لقد ظلمتني كثيرا . انا لست مسؤولا عن ذكراك المؤلمة ولا ذنب لي في ما جرى لك ولست شريرا كما تعتقد . يجب ان تعرف بان السماء ترسلني غيثا ، ولكن خارطة طريقي تجعلني أمرّ في مسالك وعرة ترعاها قوانين قاسية تؤدي الى انجماد عروقي . أثناء هبوطي احاول التخلص من قيودي ، فتنتهي جهودي بانكساري ووقوعي على الارض قطعا محطمة مهشمة ، وبما ان عروقي لا تحوي دما ، فاني افترش الارض  بياضاً . واذا تحلـّيتَ بقليل من الصبر وتابعتَ امري لبضعة ايام فقط  ، سترى باني لم أزرْ قممَكم ووديانكم وكافة أراضيكم  إلا نعمة وخيراً لاني أنتهي بالذوبان ومن ثمّ التسرب الى اعمق اعماقها لاشبعها ماء .
امام تصريحات الثلج هذه ، طأطأت رأسي غير قادر على اضافة ردّ كنت قد وضعته خاتمة  للمقال .



ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة

sarmadaboosh

شكرا على مقالك الجميل
كما اشارك الثلج في عتابه لك و خاصة في موسمنا هذا (القليل بغيثه)

simon kossa

#3
الاستاذ ماهر

شكرا لتقييمك الذي يشجعني للاستمرار اكثر فاكثر بارك الله بك

simon kossa

الاخ سرمد

اهلا بانصار الثلج والمدافعين عنه , اشكر مداخلتك ووفقك الله

بهنام شابا شمني

بالتاكيد ان للثلج منظر جميل ، يبهج عين الناظر اليه عندما يكسو الطبيعة لمساحات واسعة فتاخذ لونه الابيض يغطي تحته كل منظر جميل والغير الجميل فتبدو الطبيعة صافية نقية ، لكن عندما يصادف الشخص موقفا لايحسد عليه كما صادف كاتبنا شمعون كوسا فلا اظن ان الثلج مهما حمل من جمال ونقاء لا يمكن ان يزيل الذكرى المؤلمة في نفس الكاتب .
مقال جميل واسلوب رائع في السرد القصصي وتصوير المشاهد كتابة .

تحياتي

simon kossa

مقتبس من: بهنام شابا شمني في يناير 31, 2012, 04:56:29 مسائاً
بالتاكيد ان للثلج منظر جميل ، يبهج عين الناظر اليه عندما يكسو الطبيعة لمساحات واسعة فتاخذ لونه الابيض يغطي تحته كل منظر جميل والغير الجميل فتبدو الطبيعة صافية نقية ، لكن عندما يصادف الشخص موقفا لايحسد عليه كما صادف كاتبنا شمعون كوسا فلا اظن ان الثلج مهما حمل من جمال ونقاء لا يمكن ان يزيل الذكرى المؤلمة في نفس الكاتب .
مقال جميل واسلوب رائع في السرد القصصي وتصوير المشاهد كتابة .

تحياتي



الى الاستاذ بهنام

ليس هناك اجمل وانصع من الثلج ولست انا الذي سيغير هذه الحقيقة
وذكريات طفولتي لا انساها ابدا ، ولكنه بسبب ظروف خلقتها بيدي او خضتها بارادتي
لعب الثلج دورا غير مؤات وتحول الى ذكرى مؤلمة بالنسبة لي ،
ولكنه فعلا برئ ولقد دافع عن نفسه في النهاية
اشكر كلماتك الرقيقة