قصة العجوز وجرّتيها / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, نوفمبر 11, 2013, 12:17:17 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

قصة العجوز وجرّتيها








برطلي . نت / خاص للموقع



عبثاً حاولت البحث عن فضاء يقودني الى فكرة او موضوع يحرّك ساكن اعماقي فانطلقَ للكتابة بقناعة واندفاع ، حالة يشتاق اليها القلم للتحرّك مهللا لانه يبصر نهاية مساره الجميلة .

وجدتُ نفسي مرة اخرى كالارض القاحلة التي جافاها المطر وأطال في هجره ، فأمست قشرتُها ممزقةً من كافة جوانبها . ومثل هذا الجفاف  يسلب المرءَ صفاء ذهنه  فيجعله يجيل أنظاره في كافة الاتجاهات ويمدّ يديه نحوها بصورة عشوائية .  ولعبة العبث العشوائية هذه ، اسقطت يدي على مذياع قديم ، لا اعرف ما الذي كان قد دعاني للاحتفاظ به . أدرت المفتاح وفتحتُ الجهاز ، وبدأتُ أهيم فوق موجاته ، منتقلا بين اصوات صفير متقطّع ، الى ان انتهى بي المطاف عند محطة واضحة البث . قبل أن يذهب بي الملل حدَّ الرغبة في اطفاء الجهاز ، أصغيتُ قليلا الى صوت امرأة عجوز كانت تروي قصة ، لم تقل اذا كانت قد خاضت احداثها شخصيا ام كان كل ما ترويه من نسج خيالها .

لدى سماعي العجوز ، أحسستُ بان افكاري عادت بسرعة البرق من الشتات وكأنها تترقب بثّ بيان هامّ على الهواء . كانت العجوز قد بدأت حديثها للتوّ ، ممّا اتاح لي فرصة متابعتها الى النهاية . روايتها البسيطة اثارت اهتمامي ، فقررت تحويرها الى مقال يعالج ترددي وارتباكي . فالقصىة إذن ليست من بنات افكاري ، غير اني بادرتُ لتبنّي احدى بناتها كي ترتبط بافكاري في علاقة بنوّة شرعية . فبِنتُ الفكر هذه تقول :

كان هناك امرأة عجوز تُمضي ايامها في قرية نائية بصحبة بقرة ودجاجتين . كانت تقوم كل يوم بتهيئة الطعام لرفيقتيها اللتين كانتا بدورهما يردّان جميلها بالحليب الذي تحتاجه والبيض الذي يؤمن قسما من وجباتها . كل صباح كانت  تتناول جرّتَيها الفخاريّتين وتتجه نحو عين ماء صافية تقع على مسافة كيلومتر ونصف من منزلها . كانت أحدي هاتين الجرّتين مفطورة بعض الشئ والثانية صحيحة لا تشكو من أي عيب .

لدى عودتها ، كانت تجد الجرّة المفطورة بنصف محتواها من الماء ، والظاهرة هذه كانت تتكرر كل يوم منذ عدة سنوات ، غير ان العجوز لم تنزعج ولم تأبه للموضوع . تقول القصة بان الجرّة الصحيحة كان فخورة بانجازها ولا تخفي ذلك على زميلتها ، فتتوجه اليها بنظرة استعلاء وبكثير من الازدراء  تقوم بلومها على الكميات القليلة التي كانت تحملها للبيت ، الامر الذي كان يملأ نفس الجرّة المثلومة مرارة ويزيدها خجلا ، لا سيما وانها لم تكن تعثر على جواب تردّ به أو تبرّر موقفها .
مرّت الاعوام  ، والجرّة المشقوقة بقيت تكبت ما في صدرها وتجترّعقدتها هذه ، دون التجرّأ على الافصاح عنها ، إلى أن قررت ذات يوم مصارحة وليّة نعمتها ، فقالت للعجوز :  لقد آن الاوان كي اصارحك بما يُثقِل صدري . انا اشعر فعلا بخجل كبير للخسارة التي اسببها لك في جرّة تملئينها أنت من الماء و أنا لا أعود بها الى البيت إلا بنصف طاقتها ، فالماء التي تأتمنيني عليها  تسيل وتضيع منّي هدراً على قارعة الطريق .

نظرت اليها العجوز مبتسمة ولم تتفوّه بكلمة . كررت الجرّة أسفها من جديد وهي تبكي قائلة : إن ما يزيدني همّاً هو انك لم تجدي حتى كلمة واحدة لتواسيني بها ، لا اعرف كيف اعوّض الخسارة . هنا امسكت بها العجوز وقالت لها : هل لاحظتِ يوما الورود الجميلة التي تزين الجانب الايسر من الطريق الذي أسلكه وإياكِ يوميا باتجاه العين . هل لاحظت بان الجانبَ الايمن خالٍ من أية نبتة ؟ لاتعتقدي باني لم ألحظ حالتكِ ، لقد رأيت كمية الماء الضائعة من اول يوم باشرتِ فيه العمل . لم افكر يوما في إنهاء خدماتكِ لاني اهتديت الى استثمار العيب الذي فيك ، فقمت بزرع الطريق ببذور من مختلف انواع الورود ، وقررت بان تكوني انتِ التي تقومين بسقايتها ، وكان يتمّ ذلك فعلا دون علمك.

طيلة السنتين السابقتين ، كنت اقوم بقطف باقات من هذه الزهور لأزيّن بها المائدة . فاذا كنتِ جرّة صحيحة لا تسيل منها قطرة ماء ، لما تمكنت من سقاية هذه الورود الجميلة التي تزين الطريق لنا وللمارّة ، فتساهمين بهذا في زيادة جمال الطبيعة وفي توفير باقاتنا الجميلة داخل المنزل . يجب ان تمتلئي فخرا لانك لم تُضِيعي قطرةً واحدة من الماء الذي كنت تحملينها ، لانك عِبر نصف كميتك الضائعة كنت تقومين بخدمة جليلة خارج البيت . يجب عليك إذن ان تردّدي هذا الامرعلى مسامع زميلتك لكي تضع حدا لاستعلائها وتكفّ عن احتقارك .

انتهت القصة البسيطة هنا ، فهل احتاج الى اضافة لمسة شخصية عليها ؟ باعتقادي يجب ان اترك القصة ببساطتها لئلا أمسس جمالها بكلمات نابعة من خيال لم يكن مستعدا للكتابة . فالمغزى واضح : ليس كل عيب او عوق في الحياة عديم الفائدة ، فاذا اندمج المعوّق او الناقص مع المجتمع الذي فيه ، فانه سيجد اشخاصا مثل هذه العجوز ليجدوا له ، بحنكتهم ، دوراً مميزاً قد لا يقوى غيره على القيام به  . لا نلومنّ قطّ من نجدهم اقلّ منّا ، لانهم قد يساهمون احيانا اكثر منا في خدمة المجتمع .  هذا ما اسمح لنفسي بقوله ، تفسيرا لحكمة العجوز التي لم تكن بحاجة الى تفسير !!









Matty AL Mache